ساعة مخاض القصيدة

نشر في 31-07-2008
آخر تحديث 31-07-2008 | 00:00
No Image Caption
 فوزي كريم القصائد التي واصلتُ كتابتها في لندن قبل ثلاثين عاماً، تعتمد محاورَ واضحة. أبرز هذه المحاور التي تستهويني هو كتابة قصيدة عن القصيدة؛ عن لحظة مخاض الشعر، كيف تتكون القصيدة في داخل الشاعر، عبر الكلمات، مع الكلمات، قبل الكلمات، وفي المخيلة، أم في المشاعرِ قبل الكلمات وقبل المخيلة؟

مادةٌ تليقُ بالتأمل النقدي، أو الدراسة النقدية. ولعل ولع الشاعر بأمرٍ تأمليٍّ كهذا يبدو لي استثناءً في شعرنا العربي. قد تردُ إشارات خاطفة في بعض القصائد لهذا الشاعر أو ذاك، ولكن لا تبلغ مدى قصيدة مكرّسة. طبعاً، لا أعرف مصدر ولعي هذا إلا باعتباره تعبيراً عن حيرة عميقة بشأن مصدر القصيدة وهدفها. ولا شك أن هذه الحيرة منحتني أكثر من دافع لتأمل الأمر في حقل النقد.

الدكتور حسن ناظم في كتابه «أنسنة الشعر» (المركز الثقافي العربي 2005)، الذي كتبه عن شعري، عقد فصلاً مكرساً لهذا المحور تحت عنوان «الشعر الواصف». حتى انه وضع قصيدة «امرأة من رخام» في مستهل كتابه تحت عنوان «بيان شعري».

انتباهةُ الدكتور حسن كانت محفزاً لمشروع لم يكن في الحسبان.

كثيراً ما كنتُ أتوقفُ، عبر قراءاتي للشعر الإنكليزي، عند قصائد تسعى هذا المسعى. لعل قصيدة «الفكرة الثعلب» للشاعر تيد هيوز كانت أولى المحطات. قرأت القصيدة منذ فترة طويلة، ولم أستعدها إلا بعد أن طرأ عليّ مشروع كتابٍ جديد، صرتُ أرغب بوضعه، يجمع بين التأملات النقدية حول لحظة المخاض في القصيدة، ومختارات مترجمة من الشعر الإنكليزي تتعامل مع هذا الموضوع.

قصيدة هيوز رائعة، ونموذجية. فهو يختلي في مكتبه، داخل بيته، بينما يغطي الثلجُ الغابةَ المحيطة. يشرعُ في الكتابة على صفحةٍ بيضاء. ويتخيلُ أن ثعلباً في مكان ما على صفحة الثلج البيضاء، يترك آثاراً سوداءَ لخطواته. وبعينين واسعتين وعميقتي الخضرة، وعبر نتانةِ رائحة حارة ثاقبةٍ مفاجئة، «يدخلُ الثقبَ الأسودَ للرأس»، النافذةُ ساكنةٌ دون نجومٍ؛ الساعةُ تتكُّ، والصفحةُ البيضاء ممتلئة».

صرتُ ألتقط أي قصيدة بهذا الاتجاه، ولأي شاعر، شعراء على مستوى نيرودا، ستيفنسون، وليمز كارلوس وليمز، أرشيبالد ماكليش، باسترناك، شيموس هيني، ميْووش. وشعراء مجهولين عند القارئ العربي.

قراءة القصائد تباعاً تمنح أفقاً مفتوحاً للتنوع الغريب للرؤى، وللمخيلة، وللمواقف من لحظة المخاض تلك. إنها تضع الشاعر أمام أخطر أسئلته: من أين تأتي قصيدتي، ولأي وجهة تهدف؟ شعرنا العربي لم يُشغل البال بتساؤل كهذا. بل هو لم يُشغل باله بالتساؤل أصلاً. «نبوئيٌّ» ويقينيّ، وعارف بالظاهر والباطن: من البياتي العارف حكمة التاريخ، إلى أدونيس العارف حكمة الباطن.

لنتوقف عند قصيدة نيرودا: «شعر»

وكما كان في عمره ذاك... وصل الشعرُ/ باحثاً عني.

ما كنت لأعرف من أين أقبلَ/ أمن شتاءٍ، أم من نهر؟/ ما كنت لأعرفُ كيف ومتى؟

فلم يكن أصواتاً، ولا كلماتٍ، ولا صمتاً

بل دعوةً من شارع/ ومن أغصان ليلٍ،/ ومن آخرين على نحو فظ،

بين نيرانٍ محرقة/ أو وحيداً عدتُ/ وها كنتُ بلا وجه/ وقد مسّني.

افتقدتُ قدرةَ القولِ، فمي لا يسمّي/ وعيناي لا تبصران،

وثمة ما يبدأ الآن في الروحِ،/ حمّى أو أجنحةً منسية،

ولفك مغالقِ تلك النار شققتُ طريقي/ وكتبتُ السطر الواهنَ الأول

وعلى حين غرة رأيت السماوات تعرى وتُفتح/ كواكبَ، مستعمرات نابضة، ظلاً مثقباً كغربال بالسهام/ ناراً وأزهاراً/ ليلاً عاصفاً وكونا.

وأنا المتناهي الصغرِ/ المخمور بسعةِ الفراغ النجمي/ الشَبَهُ، وعنوان الغموض

أنا الجزء الصافي من الهاوية/ أندفع وسط النجوم/ وقلبي طليقٌ في الريح.

back to top