عالم ما بعد التحفز الروسي!
كل شيء بات موضوعا على طاولة المفاوضات للمساومة بين الدول الكبرى والقوى الإقليمية الطامحة لدور ريادي في المعادلة الدولية، منذ أن غرر الأميركيون بالرئيس الجورجي ساكاشفيلي للدخول في مغامرة ضم أوسيتيا الجنوبية الى بلاده ورميه في المجهول كما عملوا بالرئيس صدام حسين عشية تغريره بغزو الكويت!حتى الأمم المتحدة وأمينها العام كانا من بين المغرر بهم أميركيا في نفس السياق، حيث كان ثمة قرار قد خرج عن المنظمة الدولية في الرابع من أغسطس، شمت منه القيادة الجورجية أن ثمة ضوءا أخضر قد انطلق منها لمصلحة اجتياح الإقليم الانفصالي، بينما كان الأمين العام للمنظمة الدولية قد اتخذ قراراً قبل ذلك بأسبوعين يقضي بتعيين ممثل خاص له في القضية، ما فهم تشجيعا إضافيا باتجاه الخطوة الحمقاء!
لكن كل ذلك كان مخططا له بعناية بحسب العارفين بشؤون خريطة القوقاز الجيو سياسية والجيو استراتيجية، باعتبار أن مثل هذه الخطوة ستكون استفزازية للروس بامتياز، مما سيدفع بموسكو الى إحدى حالتين: إما أن تسكت على الخطوة وتكتفي ببيانات الاستنكار لاعتبارات الشراكة بينها وبين الأطلسي من جهة والتعاون الكبير المفتوح منذ مدة بينها وبين الأميركيين من جهة ثانية ولمناسبة انشغال العالم كله بالألعاب الأولمبية في الصين من جهة ثالثة، وقد قام هذا التحليل بناء على تجربة استقلال كوسوفو على ما يبدو! وإما أنها ستغضب فعلا ولكن غضبها لن يذهب بها الى أبعد من مواجهة محدودة مع تبليسي تبقى محصورة من دون أن تقلب الوضع الميداني العام بما يعكس خريطة جديدة للقوقاز، فتضطر عندها الأطراف مجتمعة إلى اللجوء الى مجلس الأمن الدولي الذي سينتصر بدوره لمصلحة وقف إطلاق النار بين المتحاربين لما فيه مصلحة الطرف المدعوم من واشنطن كما جرت العادة حتى الآن في أغلب القضايا الدولية!غير أن روسيا المتحفزة أصلا تجاه التجبر الأميركي منذ مدة والمتحينة لفرصة ظرف يشبه ظرف «القشة التي قصمت ظهر البعير» كما يقول المثل العربي لتواجه فيها كل الحالة الغربية المفرطة في استضعاف موسكو والموغلة في تطويق المجال الحيوي الروسي في أكثر من ملف، وأكثر من موقع، ما جعل قيادة الكرملين تلتقط اللحظة التاريخية الذهبية وتقرر سحق الحملة الجورجية، بكل ما تعني الكلمة من معنى، وذلك في إشارة صريحة وواضحة وقوية الى واشنطن، بأن زمن الاستضعاف قد ولى وجاء زمن التعددية القطبية، أي إعادة الحياة للدب الروسي ليس في مجاله الحيوي التقليدي فحسب بل على المسرح الدولي برمته! وهكذا بدأ العد العكسي عمليا لما يتمناه الكثيرون من أعداء وخصوم ومنافسي واشنطن في العالم الذي يمكن تسميته بدحرجة الأحادية الأميركية باتجاه هاويتها المطلوبة ولو ببطء ولكن بإحكام! ولكن لماذا كان خيار جورجيا والإصرار من قبل جماعة ديك تشيني ومن بقي من المحافظين الجدد معه والذين ظنوا أنهم سينجحون من خلاله في إنقاذ ما تبقى من ميراث رئيس الدولة العظمى المنهكة هو الميدان هذه المرة؟!* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني