Ad

اكتفى المجتمعون في قمة روما بالدعوة إلى مكافحة أزمة الغذاء بالوسائل كلها، من دون تحديد، فقد تجنبوا إصدار بيان قاس حيال إنتاج الوقود الحيوي، وهو ما اعتبر «انتصاراً» للولايات المتحدة.

لم تعد مشكلة الأمن الغذائي في أي بلد من بلدان العالم، مجرد مشكلة اقتصادية، تعوزها قضية التدبر الإنساني أو القيمي أو الأخلاقي، إنها مشكلة السياسة، بل السياسات بأجلى صورها، لاسيما أن المعاناة المروعة حد الكارثة أو الكوارث المتناسلة من تلك السياسات، تملك مسببات عالمية، علاوة على المسببات المحلّية، وسوء الإدارة هو العامل المشترك بين ما هو عالمي وما هو محلي. بل إن دكتاتورية المضاربة والمضاربين، على المستوى الكوني، هي التي تتحمل المسؤولية الرئيسة المباشرة إزاء ارتفاع أسعار المواد الغذائية، كما ارتفاع أسعار النفط؛ والتسبب في تدمير البنى الزراعية والصناعية في العديد من بلدان العالم، وزيادة الفقر والمجاعة؛ ما قد يؤسس أو يقود إلى حروب أهلية مستقبلاً.

وعلى ما ترى منظمة «الفاو» فإن الأخطار التي يتعرض لها الأمن الغذائي، بسبب تراجع المخزون في أنحاء العالم المختلفة وارتفاع أسعار الأغذية هي جسيمة، لذا فإن «تحديات إدارتها في السنوات المقبلة كبيرة، بينما ستقاس تكاليف الفشل لجهة زيادة الفقر والجوع». وأكدت «أن على المجتمع الدولي ضمان امتلاك الحكومات للموارد البشرية والمالية والتقنية والمادية التي تحتاج إليها لتنفيذ الإصلاحات ذات الأولوية، ومن بينها الطرق الكفيلة بزيادة الموازنة، والدعم التقني، والتوجهات السياسيّة القوية، وزيادة تكريس جهودها في مجال المفاوضات الدولية، لتقليص الحواجز التجارية الدولية والخلل في الأسواق، والتوصّل إلى بروتوكولات واتفاقات دوليّة تتعلّق بالوقود الحيوي». إلا أن العديد من الخبراء يعزو الأزمة الاقتصادية الحالية إلى أزمة العقارات في منتصف عام 2007، عندما حول المضاربون أموالهم إلى أسواق أخرى؛ أهمها الطاقة والمواد الغذائية، ما أنذر يومها بوقوع السيناريوهات الأسوأ؛ التي تمثلت في بطء النمو، وانخفاض وتراجع القدرة الشرائية، وحالات تضخم نجمت عن الارتفاع في أسعار المواد الغذائية، وتسريع عملية اندثار الطبقات المتوسطة ووقوع الدول غير المصدرة كلها في براثن الفقر.

إضافة إلى سوء الإدارة الناتج عن الجشع والطمع، وحالات الفساد والإفساد المستشرية داخل الإدارات الحكومية، والمنظمات الدولية وأجهزتها المختصة، فإن البشرية ما فتئت تدفع أضحياتها على مذبح تنافس السياسات الدولية، بل وتنازعاتها وتصارعاتها الباردة والساخنة على حدّ سواء، مادامت الأسواق والمواد الخام الاستراتيجيّة قد شكّلت وتشكّل عامل الجذب الرئيس للقوى الدولية الكبرى للاستحواذ عليها، وخوض الصراعات والحروب من أجلها، وغزو بلدان الآخرين للاحتفاظ بسلعة أو أكثر من السلع الاستراتيجيّة المهمة لنمو الصناعات والتكنولوجيا كالنفط والغاز ومشتقاتهما وغيرهما، والهيمنة عليها وعلى أسواقها.

وغزو العراق ومحاولة الاحتفاظ به بلداً داخل القبضة العسكرية الأميركيّة عبر معاهدة طويلة الأجل، تضمن وجوداً عسكرياً مباشراً ودائماً، وهيمنة على أسواقه وثرواته النفطية لمصلحة الولايات المتحدة واحتكاراتها، في ظل تنافس السياسات الاستراتيجية الدولية، شكل ويشكل الآن واحداً من الأعمدة التي تشهد انهيارها، بعدما أخفقت واشنطن في الاحتفاظ بزعامتها الدولية، ليس لأسباب سياسية داخلية فحسب، بل ولأسباب اقتصادية كذلك، لاسيما في ظل صعود قوى دولية أخرى، تفوقت وتتفوق على واشنطن في «غزوها» الهادئ لبلدان في العالم، لم تكن لتحلم بكين أو نيودلهي-على سبيل المثال- بالدخول إليها عبر الاستثمارات والسلع الاستراتيجية وبناء شراكات اقتصادية مهمة فيها.

الإخفاق الإمبراطوري الأميركي هنا في بلادنا تحديداً، وإذ يسفر عن أزمة عالمية، فإنما هو ينذر بتحول في ميزان القوى الدولي، لم تعد القطبية الأحادية بسببه، واحدة من أدوات الهيمنة التي تحكم سلوكاً إمبراطوريا مكابراً، وسط حالة من فصام وجنون العظمة لدى إدارة لا تفيد تصريحات المرشحين لخلافتها، إلا بتكرار أو مواصلة سياساتها الفاشلة التي لم تستطع أن تحدث تغييراً ولو جزئيا على الصعيدين الإقليمي والدولي حفاظاً على السلم والاستقرار الدوليين.

على هذه الخلفية، وبسببها أو لأسبابها؛ واجهت قمة الأمن الغذائي الأخيرة التي اختتمت في الخامس من يونيو الجاري، إشكالات عدة، كان أبرزها إشكال عدم الخروج بنتائج ملموسة، تساهم في إيجاد حلول جذرية لأزمة تناقص المواد الغذائية في العالم وارتفاع أسعارها بشكل كبير. فهل كان يتعين الانتظار حتى يزول ما يسمى «عصر الغذاء الرخيص» حتى يتحرك زعماء العالم في محاولة لحل أزمة الغذاء العالمي؟ وهل كان يتعين على فقراء العالم أن يزدادوا عدداً وفقراً، ليعي الأغنياء أنهم بعقود من الأخطاء، دفعوا بالعالم إلى حافة الكارثة؟.

وفي «انتصار» لـ«غول المجاعة» على اجتماعات قمة روما، شهدت قمة العام الحالي خلافات عميقة، وتعهدات خجولة، والتزامات تتكرّر كلّ اجتماع، من دون أن تشهد حلولاً جذرية لها، رغم أن القمة الحالية أتاحت جمع وعود بتقديم مساعدات تجاوزت 5.6 مليارات دولار.

وإذ اكتفى المجتمعون بالدعوة إلى مكافحة أزمة الغذاء بالوسائل كلها، من دون تحديد، فقد تجنبوا إصدار بيان قاس حيال إنتاج الوقود الحيوي، وهو ما اعتبر «انتصاراً» للولايات المتحدة. وربما بسبب تعثر المفاوضات، وبروز خلافات أخرت البيان الختامي، حيث تغلبت المصالح السياسية على مصالح الملايين المهددين بالمجاعة، فتحت قمة روما جعبة التزامات أقرّت في قمم سابقة، فتعهد المجتمعون مجدداً بـ «خفض عدد الذين يعانون سوء التغذية إلى النّصف بحلول عام 2015». وهو ما كانت قمة عام 1996 قد أطلقته أيضا من دون أن تحقق تلك الالتزامات والوعود أي تغيير ولو في مشهد واحد من مشاهد واقع جياع العالم.

وفي حين لا تبدو الإجراءات الحكومية موحدة إزاء المشكلات الراهنة، لجهة أزمات الغذاء أو لجهة الأسعار، لا على الصعيد الإقليمي ولا على الصعيد الدولي، فإن لكل حكومة سياستها التي تتحدد بمعزل عن أي رؤية مستقبلية؛ محلّية أم تنبع من إطارات أوسع وأشمل، نظرا إلى غياب استراتيجيات الرؤى الاستشرافية من برامج حكوماتنا وأجهزتها والمنظمات الإقليمية والدولية، وإن وجدت فهي لا تجد من يفعّلها أو يحدد سياساته بموجبها، إلاّ حين تقع الواقعة، فيجري تذكرها لا غير، وذكّر إن نفعت الذّكرى.

ولهذا تحديداً، فإن عقوداً من الأخطاء والتجاهل السياسي لمشكلات الغذاء والتنمية الزراعية، تدفع ثمنها الشعوب اليوم أضعافاً مضاعفة، تحتم البحث بجدية مطلقة بعيداً عن المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتضاربة، وذلك من أجل إيجاد حلول ناجعة لأبسط مقومات الاستقرار في بلدان لا ينقصها من مسبّبات الانفجار مزيداً من وقود ومسببات إشعال النزاعات والعنف والحروب التفتيتية.

* كاتب فلسطيني