العالم بعد بوش

نشر في 27-06-2008
آخر تحديث 27-06-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت في معرض بروكسل للفنون سوف تقع عيناك على لوحة رائعة من رسم برويغل. ومن المعروف أن الشاعر البريطاني و. هـ. أودين تحركت مشاعره حين رأى هذه اللوحة إلى الحد الذي جعله يؤلف قصيدة عنها.

في هذه اللوحة نرى تصويراً لإيكاروس وقد ذابت أجنحته، وهو يهوي إلى قبر مائي، ولكن لا أحد يُبدي اهتماماً كبيراً، فيستمر العالم على حاله، إذ يواصل الفلاحون حرث حقولهم والالتفات إلى حياتهم، ويبدو أنهم لا يبالون بسقوط إيكاروس المأساوي.

إن الحياة الواقعية كثيراً ما تسير على المنوال نفسه، بصرف النظر عن العناوين الإخبارية الضخمة والأحداث الخطيرة. وكذلك سوف يعود جورج دبليو بوش إلى كروفورد في تكساس بحلول نهاية هذا العام، ولكن هل سينتبه أحد إلى ذلك؟ وهل أصبح أي شخص يبالي؟ لقد احترقت أجنحة بوش من العراق إلى غوانتانامو، وحتى في لحظتنا هذه أصبح بوش وكأنه شخصية من الماضي؛ ويحرص أنصاره على توجيه الجماهير إلى الصفوف الأمامية في الأحداث واللقاءات العامة، خشية أن يصبح غياب الاهتمام بما يفعل أو يقول أوضح مما ينبغي.

إن السبب الوحيد الذي قد يجعلنا ننتبه إلى رحيله ليس ما قد يصبح ممكناً بعد غيابه، ولكن ما سيظل كما هو بلا أدنى تغيير. ولنتأمل معاً أربعة أمثلة:

أولاً، سوف يظل لزاماً علينا أن نجد سبلاً أفضل لإدارة الاقتصاد العالمي، وتضييق فجوات التفاوت التي تعيبه، وأن نتأقلم مع المخاطر البيئية المترتبة عليه، وفي المقام الأول من الأهمية، سوف يكون لزاماً على قادة أميركا وأوروبا أن يتجنبوا الركون إلى أساليب الحماية، وما قد يترتب على ذلك من إصابة «جولة الدوحة» التجارية في مقتل.

في الوقت نفسه، يتعين على الغرب أن يتوصل إلى موقف تفاوضي متماسك في التعامل مع قضية الانبعاثات الكربونية وتغير المناخ، وإشراك الصين والهند في هذا الموقف، ويتعين على الغرب أيضاً أن يضع في الحسبان مسؤوليته التاريخية عن ظاهرة الاحتباس الحراري التي يعانيها العالم الآن، وعن حجم سكانه، وعن القوة الاقتصادية الحالية.

ثانياً، سوف يستمر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فضلاً عن ذلك فقد أظهرت الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية أن غياب سياسة المشاركة الفعلية المسؤولة من جانب السياسة الأميركية في القضية طيلة الأعوام السبعة الأخيرة ليست وحدها السبب في الطريق المسدود الذي آلت إليه الأمور اليوم. فحتى السيناتور باراك أوباما الذي أبدى التزاماً واضحاً ببناء علاقات أكثر تفتحاً وأقل أحادية مع بقية العالم، تفوّه بأشياء عن فلسطين وإسرائيل تجعله يبدو وكأنه يستبعد ذلك النوع من المبادرات المطلوبة للتوصل إلى اتفاق سلام.

في الواقع، وبعيداً عن انتقاد الاستيطان الإسرائيلي المستمر في الضفة الغربية، تعهد أوباما بتقديم دعمه الكامل للقدس كعاصمة غير مقسمة لإسرائيل- حتى أنه بلغ في تعهداته هذه مبلغاً لم يبلغه بعض الأعضاء في مجلس الوزراء الإسرائيلي ذاته. وهذا يشكِّل ضوءاً أخضر لكل المناصرين المتصلبين للمستوطنين الذين شنوا حملة تنادي بتوسيع شرق القدس إلى عمق الضفة الغربية، ببناء خط من المستوطنات يجري إلى البحر الميت. والحقيقة أنه لمن العسير أن نتصور كيف لأي محاولات دبلوماسية أميركية قائمة على هذا التوجه أن تنجح في اجتذاب تأييد الفلسطينيين، وعلى هذا فلسوف يستمر الشرق الأوسط في الهيمنة على الجدال الدبلوماسي والحوار السياسي.

ثالثاً، سوف يستمر الانتشار النووي في قض مضاجعنا، فكيف نتعامل بشكل حاسم مع كوريا الشمالية، التي ربما أصبحت تمتلك بالفعل عدداً من الأسلحة النووية؟ وكيف نتدبر علاقتنا بإيران، التي ترغب- أو ربما لا ترغب- في تنمية قدراتها النووية العسكرية إلى جانب الطاقة النووية المدنية؟

إن هذه التساؤلات، إلى جانب التأثيرات كلها التي لا يمكن التنبؤ بها في شرق وغرب آسيا، لابد أن يتم التعامل معها أثناء التحضير للمناقشات الخاصة بتجديد معاهدة منع الانتشار النووي في عام 2010. إن القوى النووية التي وقعت على معاهدة منع الانتشار النووي تعتقد أن الغرض الوحيد منها يتلخص في منع الانتشار، إلا أن دولاً أخرى تزعم أنها مختصة أيضاً بنـزع السلاح النووي، وأن البلدان النووية قد وافقت بوضوح على العمل نحو التخلي عن أسلحتها النووية، كان هذا النوع من التضارب بمنزلة الأساس للتوجه الدولي في التعامل مع مشكلة الانتشار النووي، والآن بات من الواضح أننا إذا كنا راغبين في معاهدة أكثر قوة لمنع الانتشار النووي- على سبيل المثال، معاهدة تفرض قدراً أعظم من المراقبة والإشراف- فلسوف يكون لزاماً على الدول التي تمتلك أسلحة نووية أن تحترم ما يعتقد الآخرون أنه جانبهم من صفقة غير عادلة.

وأخيراً، حتى بعد بوش- الذي خسر كل شعبية له في أوروبا- سوف يجد الاتحاد الأوروبي صعوبة كبرى في التحول إلى الشريك الذي ترغب فيه أميركا وتسعى إليه في التعامل مع المشاكل العالمية.

الحقيقة أن الشجار الأخير الذي وقع بشأن ما أطلق عليه «معاهدة لشبونة»، بسبب الرفض الأيرلندي، يذكرنا جميعاً بالمشكلة الأساسية التي تعانيها أوروبا، إن أوروبا تبدو في بعض الأحيان أكثر اهتماماً بترتيباتها المؤسسية وشؤونها الداخلية من اهتمامها بمسؤولياتها العالمية، بيد أن الفقر العالمي، والكوارث البيئية، والانتشار النووي، وأفغانستان، والشرق الأوسط ليست بالمشاكل التي يمكن إرجاء النظر فيها بينما تتحدث أوروبا إلى نفسها.

فضلاً عن ذلك، فإن أوروبا كثيراً ما تعطينا الانطباع بأن مواطنيها يمكن الاستخفاف بهم، ولكن إذا كان ما يقرره زعماء أوروبا في ما بينهم يتعرض للانتقاد أو الرفض من جانب هؤلاء الذين انتخبوا هؤلاء الزعماء، فإن هذا يوضح- كما يقترح أهل النخبة- كيف أن تجاهل هؤلاء الزعماء كان التصرف السليم في المقام الأول، إلا أن أوروبا ليس من الممكن أن تُبنى على مثل هذا النوع من العجز الديمقراطي، بل يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يزيد من ارتباطه بمواطنيه في المصادقة على القرارات المتخذة في بروكسل وتأييدها، ويتعين على أوروبا أن تستوعب هذا الدرس بسرعة.

إذن، سوف يرحل بوش وتشيني أخيراً، إلا أن العديد من المشاكل القديمة سوف تظل كما هي بلا أدنى تغيير. ومرحباً بكم في عالم الواقع.

* كريس باتن | Chris Patten ، حاكم هونغ كونغ الأسبق والمفوض الأوروبي للشؤون الخارجية، ويشغل حالياً منصب رئيس جامعة أكسفورد والرئيس المشارك لمجموعة الأزمات الدولية.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top