الوصول إلى الجمهور ليس مسوغا لهشاشة وسخافة أغلب ما تعرضه القنوات التلفزيونية والفضائية، وإنما هناك أسباب أخرى، لعل منها استسهال إنتاج الهش والسخيف وبساطة إنتاجه وربما استرخاص ثمنه، ولكونه من وسائل الربح السريع، حيث إن الفضائيات تتهافت على شراء كل ما يتم إنتاجه ولو كان رديئا.فرغت أخيرا من قراءة كتاب «معارك طاش ما طاش، قراءة في ذهنية التحريم في المجتمع السعودي» للكاتبة بدرية البشر. الكتاب صغير في حجمه حيث لا يتجاوز مئة وخمسين صفحة، لكنه كثيف ومتأجج جدا في محتواه، ويفتح أبوابا عديدة لكثير من التساؤلات والأفكار، شأنه في ذلك شأن الكتب الجيدة التي تحوي أشياء أكثر بكثير من سطورها.
يتحدث الكتاب، وكما هو واضح من عنوانه، عن المسلسل السعودي المعروف «طاش ما طاش». والذي تواصل عرضه لأكثر من أربعة عشر عاما، في مسيرة امتلأت بعراقيل ومواجهات وصل بعضها إلى حد تهديد أبطال المسلسل بالاغتيال والتصفية الجسدية.
لكنني لن أذهب إلى استعراض ما جاء في الكتاب، رغم أن فيه الكثير مما يستحق، وذلك حتى لا أحرق المتعة على من قد يودون قراءته، بقدر ما سأتوقف عند واحدة من الأفكار المحورية التي تراءت لي بعد فراغي من قراءة الكتاب، وهي قدرة التلفزيون والفضائيات على تقديم أعمال تجمع ما بين تحقيق الجماهيرية الكاسحة، والاحتفاظ في الوقت نفسه بكونها ذات رسالة وفكرة ذات قيمة، إن هي أرادت ذلك.
لست هنا في معرض إحياء المعمعة التي أثارها «طاش ما طاش» أو الوقوف مع مؤيديه أو معارضيه، بالرغم من ميلي إلى صف المجموعة الأولى دون تردد، لكنني سأكتفي بالقول إن مسلسلا تمكن من إثارة كل هذا الزخم الإعلامي والنقاش المجتمعي العريض على ما جاء في حلقاته المتنوعة، واستطاع أن يستقطب انتباه شرائح المجتمع السعودي كلها (والخليجي عامة) على اختلاف ثقافاتهم وتدرج مستوياتهم، يكفيه ذلك لأن نتأكد أن به شيئا متميزا يختلف عما سواه.
بالعودة إلى الفكرة المحورية التي توقفت عندها، مع استذكار ما يكتب ويقال ويثار دائما عن هشاشة وتفاهة أغلب المسلسلات والبرامج التي تعرض في رمضان، خصوصا على القنوات التلفزيونية والفضائيات المختلفة، سأجدني مرغما على التساؤل عن السبب الكامن وراء ابتعاد المنتجين عن انتاج البرامج والمسلسلات الحاملة للرسائل والقيم المجتمعية، على غرار «طاش ما طاش».
إن كانت الحجة أن برامج ومسلسلات على هذه الشاكلة لا تتحصل على الإقبال الجماهيري، فهذه مردود عليها بأن «طاش ما طاش» وبالرغم من كونه يحمل رسائل مجتمعية موجهة، ربما كانت خاصة بالمجتمع السعودي في أحيان كثيرة، استطاع أن يحصد جماهيرية ضخمة جدا وصلت إلى 60% من بين نسبة مشاهدي البرامج في القنوات العربية في العالم العربي في وقت من الأوقات (بحسب واحدة من الإحصاءات).
إذن فالوصول إلى الجمهور ليس مسوغا لهشاشة وسخافة أغلب ما تعرضه القنوات التلفزيونية والفضائية، وإنما هناك أسباب أخرى، لعل منها استسهال إنتاج الهش والسخيف وبساطة إنتاجه وربما استرخاص ثمنه، ولكونه من وسائل الربح السريع، حيث Nن الفضائيات تتهافت على شراء كل ما يتم إنتاجه ولو كان رديئا، لأن الناس تتسمر أمام التلفزيونات في هذه الفترة لتشاهد أي شيء.
أجدني وقد عدت كعادتي أخيرا لأقول إن المشكلة ثقافية. أصحاب الإنتاج التلفزيوني والفضائيات ابتعدوا عما كانوا يسمونه «بالرسالة الفنية»، وصارت القصة بالنسبة لهم مجرد تجارة لا أكثر، وأصبح المشاهد في الطرف الآخر لا يمتنع ولا يقول لا لمشاهدة أي شيء، لنجدنا وقد أصبحنا في حيرة لمن نوجه اللوم!!