الشيخ القرضاوي وهواجس التشيع
الفتن على مر العصور كانت سلاحا للدمار، وكم لعبت أدواراً خطيرة في الصراعات والحروب وفي خراب البلدان وتشتيت الشعوب! وكم من عروش سقطت! وكم من ممالك تلاشت! وكم من نجم أفل! وكم من أناس صرعوا نتيجة للفتن بأسبابها المختلفة! ولكن أخطرها تلك الفتن الطائفية والمذهبية التي تعتبر الأطول عمراً والأشد فتكا والأشرس صراعا وقد يمتد مفعولها لأجيال قادمة لأنها تمترس خلف نصوص وتفسيرات واجتهادات غير قابلة للتعديل.. ولذلك تصبح دعوة التصالح والتكاتف ووأد الفتنة- مهما عظمت الاخطار- غير ذات جدوى لعدم مقدرة أي طرف على تصحيح الرؤى وتعديل الاجتهاد الذي يعتبر مقدسا لدى الأطراف المتصارعة، وأي مساس بهذا المقدس يعتبر خروجا عن الملة.الاختلاف السني الشيعي تاريخيا بدأ سياسيا مع تولي أبي بكر «رضي الله عنه» وتحول قبليا مع مقتل عثمان «رضي الله عنه» وتطور سلطوياً بمعركة «صفين» وتعمق مذهبيا بمجزرة «كربلاء» وتحول فيما بعد الى داخل أروقة الخلافة العباسية وخارجها الى أن أصبح الصراع إمبراطوريا بين العثمانيين والصفويين، والذي بقي متأرجحا بين المد والجزر حتى أفول نجميهما.. وهذا التراكم التاريخي المضاف اليه آلاف التفاسير والاجتهادات والفلسفات.. عمّق الشرخ المذهبي وأغلق كل نوافذ الأمل والحوار لإحداث نقلة ما في الوعي الديني تضيّق الهوّة وتغرس القبول.
الاعتدال بكل جوانبه ضرورة شرعية وإنسانية وأخلاقية خصوصا في الجانب الديني لما له من أثر إيجابي على كل الصعد، ولكن امتداده في الواقع ضعيف بعض الشيء نتيجة لظروف المنطقة السياسية والدولية ما عدا تيار السلطة- كما ذكرنا في مقال سابق- الذي آثر المصالح على المذاهب وقبل بظلّ ما في زوايا السياسة الرسمية يخطب الود ويشرعن الخطاب، ولهذا لا تؤخذ آراؤه مهما كانت مهمة ومؤثرة لأنها مدفوعة الأجر إضافة الى بعض العلماء المستقلين كالشيخ القرضاوي الذي تؤخذ آراؤه بحمل الجد نظرا للثقة الشعبية التي يتمتع بها.ولهذا تكون آراؤه وفتاواه تحت الضوء لأن غلطة العالم مكلفة بعض الشيء، خصوصا في الظروف الحرجة التي تتطلب الميزان في اللفظ والحكمة في الاتهام والقرا،ر وذلك لما يعول عليه وعلى أمثاله في تأمين الرصيد الوسطي المطلوب في تحصين الأمة وتنميتها. ومن هذا المنطلق كانت دهشتنا كبيرة لما صدر عن الشيخ القرضاوي من تصريحات مذهبية في التشيع لا تنم عن حكمة ولا وسطية ولا أدري كيف انزلقت عمامته وانغمست بهذا المخاض المكلف وغير المتوازن وغير الموضوعي وخارج خطوطه الإصلاحية التي أقنعنا بجدواها، بل بأهميتها في تقريب المسلمين بعضهم من بعض.تحريك المذهبية بهذه الظروف الصعبة في المنطقة ومن قبل عميد الوسطية يطرح استفهامات كثيرة أولها: إذا كان هذا الهرم الاعتدالي قد انجر- بقصد وبغير قصد- إلى أتون الفتنة والمذهبة؟ فأي مشروع يمكنه إصلاح الأمة وترميم انهياراتها المختلفة خصوصا العقائدية منها؟! وثانيا: من حق العلم على العالم أن يحمله كرسالة للخير والمحبة وليس كمشروع فتنة.. والإسلام بجوهره دين الوحدة والتسامح والرحمة، ومن يضيف إلى هذه القيم العظيمة قناعة مخالفة جراء الاجتهاد أو من تراكم تاريخي أو لنزعة حزبية ما فلا يحمّل تبعاتها للدين خصوصا عندما تكون هذه القناعة في معظمها تصب لمصلحة مشروع استبدال عدو المنطقة السرطاني بآخر.. أي استبدال العدو الصهيوني بالخطر الإيراني المزعوم والذي فشل بالسابق على يد الراحل جمال عبدالناصر في معركة حلف بغداد. امتداد الخطوط الدعوية للتشيع في بعض البلدان العربية هو حقيقة وليس وهما- كما ادعى السيد محمد حسين فضل الله- وقلق الشيخ القرضاوي مشروع إنما بغير محله لأنه ليس بالخطر الداهم إنما هو نتاج وإفراز طبيعي لحصيلة الانتصارات والتحديات التي خاضتها المقاومة الاسلامية في لبنان بنجاح باهر والتي أذلت العدو الصهيوني وجعلتنا نراه بصورة غير مألوفة لدينا من الذل والاهانة.. ناهيك عن التحدي الايراني للمنظومة الدولية وعدم رضوخها لكل الضغوط الدولية -رغم جديتها- حتى لو كانت تكتيكا.. إضافة الى الدعم المادي والمعنوي الايراني للمقاومة الاسلامية في فلسطين، والذي يعتبر شريان الحياة لديها وباعتراف قادتها... وهذا المشهد له أثمانه وله ارتداداته في ظل عجز عربي «سلطوي شعبي» وصل إلى حد المهانة في عدم الاكتراث مما يحصل في الاراضي الفلسطينية وغزة بالذات التي تئن تحت سياط الجوع والحرمان من دون أي محاولة نُظُمية لتقديم العون، ولو كان رغيفا أو حفنة مهدئة لمرضى وجوعى فلسطين المحاصرين إسرائيليا وعربيا رغم التخمة المالية الضخمة لهذا النظام العربي ورغم علاقاته التحالفية مع اسرائيل والمنظومة الدولية.. ومن هنا يأتي الاستفهام الثالث: من الأولى بالنقد والتشهير وتسليط الضوء عليه هذا المشهد أم ذاك؟!وشتان بين الثريا والثرى.. وعلينا القبول بالثمن- ولو بنفس غير راضية- لانه يبقى زهيدا إذا ما قورن بما يحدث، وبما يخطط للمنطقة من تقسيم وفرقة ونهب لها، ومن محاولة تنصيب عدوها السرطاني ليكون وصيا عليها بدعم من الحلفاء الغربيين الذين لا يتوانون لحظة عن فعل أي شيء لحفظ أمنه وتفوقه على المنطقة.الإقلاع عن هكذا تصريحات في الظروف الحالية صك إيماني بامتياز لأن الفتنة لا تخدم سوى أعداء الأمة خصوصا أن ضعفنا وهواننا لا يحتمل هزة أنفية فكيف إذا كانت هزة مذهبية وعلى أيدي الأئمة والعلماء الأفاضل فإنها كارثة بلاشك فهل نعالج الاختلاف بالحكمة والموعظة الحسنة؟! نقول إن شاء الله.