كوريا الشمالية... وأنت تضحك 3-3
هي أحداث تشبه النسمة الباردة في ليالي الصيف الحارة، ولعل هذا ما دفعني إلى فتح دفاتري القديمة للكتابة عن «كوريا الشمالية... وأنت تضحك» بغية المساهمة في تخفيف موجة الحر، وزرع البسمة على الوجوه العطشى لها على مدار السنة في عالمنا العربي الملتهب بأكثر من أزمة كي لا أقول كارثة.خلال فترة حياتي التي دخلت مرحلة الخريف، لم أشعر بالحرج والارتباك معاً مثلما حدث لي في مدينة «وان سان» تلك المدينة الكورية الساحلية التي تناوب على احتلالها الأميركيون والكوريون طوال فترة الحرب الكورية مرات عديدة، فقد دعيت إلى قضاء يوم بحري لأمارس السباحة في بحر الصين على شاطئ تميل مياهه كما رماله إلى اللون الأصفر. طبعاً كان برفقتي الرفيق «كيم» الذي يجيد التعبير باللغة العربية ببساطة تتنافى مع كتابات بعض كتابنا الذين يرون الكتابة المفهومة نوعاً من الجهل وقلة الثقافة. ارتديت لباس الاستحمام (المايوه) وخرجت من غرفة تغيير الملابس. وفجأة لاحظت أن جميع المستحمين بلا استثناء ينظرون إليّ بغرابة يشوبها الابتسام والضحك بصوت مسموع في بعض الأحيان. حتى الرفيق كيم كان على رأس هؤلاء. فسارعت بالعودة إلى غرفة تغيير الملابس اعتقاداً مني بأن «شيئاً ما» غير عادي يشوب لباس الاستحمام، لكنني لم أجد هذا الشيء، ولباس الاستحمام كان في غاية العفة والاحتشام. فعدت أدراجي إلى البحر، لكن النظرات والضحكات استمرت في ملاحقتي إلى درجة أن عدداً من الأطفال الكوريين اخذوا يشيرون إليّ بالأصبع. وعندما وصلت إلى حيث كان كيم متمدداً على الرمال الصفراوية كنت في غاية الإحراج والارتباك. ومن دون أن اسأل قال لي وهو يقهقه: لباسك محتشم، ولكن... وصرخت: لكن ماذا؟ قال: صدرك... قلت وأنا أنظر إلى صدري متفحصاً: لم أفهم. قال اجلس وأنا سأشرح لك الأمر شرط ألّا تعتبر شرحي هذا إهانة.
وشرح لي «كيم». قال إن صدري مليء بالشعر، وهذا يتنافى مع «فيزيولوجية» سكان الشرق الأقصى. وهناك أسطورة تفيد بأن الإنسان ذا الشعر الكثيف على الصدر هو من سلالة القرود، قلت بعد أن هدأ ارتباكي قليلاً وبعد أن جالت نظراتي في صدره العاري محاولاً التفتيش عن شعرة واحدة من دون جدوى: والذين لا شعر في صدورهم إلى أي سلالة ينتمون؟ أجاب بفخر: إلى سلالة الملائكة... هكذا تقول الأسطورة. مضت فترة وجيزة قبل أن أرد «التحية» له فتساءلت كيف يميزون بعضهم بعضا لأنهم في نظر «سلالة القرود» أمثالي هم نسخة طبق الأصل عن بعضهم بعضا. أجاب بسرعة وبشيء من الاستغراب: غريب يا رفيق، كنت على وشك أن أطرح السؤال ذاته عليك؟!هذه واحدة. أما الثانية فحدث ولا حرج. بعد حديث سلالات الملائكة والقرود، انتقلنا إلى الخط الفاصل بين الكوريتين الذي رسمته الأمم المتحدة والذي عُرف بخط العرض 38. فعلى تلة تشرف بشكل بانورامي على نقطة الحدود هذه، شُيدَ فندق صغير في قلب غابة مزروعة بأنواع الزهور المختلفة ذات السلالات الآسيوية، والأسماء التي لا يمكن تذكرها أو حتى لفظها. وصلنا بعد الظهر. قيل لي إن مفاجأة كبرى تنتظرني في صباح اليوم التالي، حاولت بشتى الوسائل معرفة هذه المفاجأة، لكن الرفيق كيم القليل الكلام تحول إلى «أبو الهول». وكان يكتفي كلما سألته عن المفاجأة بالابتسام.صباح اليوم التالي، عرفت ما هي تلك المفاجأة الموعودة. كان عليّ أن احمل لافتتين واحدة باللغة الإنكليزية والثانية باللغة الكورية، وأقطع المسافة الفاصلة بين حدود البلدين والتي تسمى «الأرض الحرام» NO MEN’S LAND، عبر الأسلاك الشائكة والأسلحة الصاروخية والجنود المدججين بأنواع الأسلحة المختلفة، والجاهزين لإطلاق النار على كل شيء يتحرك، وأن أصرخ، خلال مسيرتي المفترضة هذه: تسقط الامبريالية الأميركية قاتلة الشعوب. طبعاً باللغتين العربية والإنكليزية بعد أن عجز «كيم» ورفاقه في تعليمي إياها باللغة الكورية. الحق أقول إنني أصبت بدهشة ممزوجة بالغضب... أظهرت الدهشة وكتمت الغضب. وتساءلت: ماذا لو أن أحد الجنود الأميركيين أو الكوريين الجنوبيين لم يعجبهم شكلي، أو طول شاربي مثلاً وقرر في ساعة غضب أو ملل أن يطلق النار على هذا الدخيل الغريب القادم من الشرق الأوسط. جاءني الردّ وكان بمنزلة عذر أقبح من ذنب. قيل لي: منذ سنتين حصل مثل هذا الحادث مع زائر من كوبا ونشبت معركة استمرت ساعتين بيننا وبينهم حيث لقناهم درساً لن ينسوه. بالإضافة إلى الضجة العالمية التي أدانت العدوان الأميركي. قلت: المهم. ماذا حصل لهذا التعس الحظ الكوبي؟ قيل: صار نجماً عالمياً، والرئيس المحبوب شارك في نقل جثمانه وحمل النعش إلى داخل الطائرة التي أقلته إلى بلاده.طبعاً رفضت بعد مناقشة دامت أكثر من ساعة أذكر أنني قلت خلالها في تبرير موقفي الرافض إنني مريض بالقلب، فكان الردّ إن قلبي سليم نتيجة الفحوصات التي أجريت لي في المستشفى في العاصمة بيونغ يانغ بعد ادعائي المرض تهرباً من رؤية حلقات الفيلم الكوري الـ13 في الفيللا المطلة على العاصمة، التي ورد ذكرها في المقال السابق. لكن «كيم» وجماعته أصروا وقدموا بعض المغريات التي لا مجال لذكرها الآن. والاصرار الكوري شبيه بحشرة «العَلـَق» التي إذا ما لصقت بالجسم لا تخرج إلا بعملية جراحية. في النهاية لم أجد بداً من الاعتراف ببعض الحقيقة. قلت لهم: إنني أنتمي إلى فئة البشر التي يطلق عليها اسم الجبناء. ولا استطيع أن أعدكم باستكمال الرحلة المطلوبة لأن ساقيّ قد لا تحملاني أكثر من بضعة أمتار. وإذا حصل ذلك فإن الأمر يتحول إلى فضيحة لكم ولي.هذه ثانية. أما الثالثة فهي ثالثة الأثافي. دعيت إلى عشاء رسمي في مطعم مخصص لكبار المسؤولين الكوريين، ويقدم أطباقاً كورية فقط. ولم ينس «كيم» أن يذكرني أكثر من مرة بأن دعوتي إلى هذا المطعم هي امتياز ضخم، وشرف ما بعده ولا قبله شرف، وأن أنواع الطعام التي سنأكلها قد يدفع الكوري العادي نصف عمره لتذوقها. وبدأت أطباق الطعام تتواصل إلى المائدة. وكفاتح للشهية، بدأنا بنوع من اللحم المقدّد الممزوج بأنواع التوابل والحشائش المختلفة، وفي منتصفه جزرة «الجينسينغ» الشهيرة في العالم والتي يغالي الكوريون في وصف فوائدها على الصحة العامة، وخصوصاً بالنسبة إلى إعادة الشباب إلى مّن ودّع مظاهر الشباب إلى غير رجعة. أكلتُ بشهية، ليس لأن الطبق كان شهياً، بل لأنني كنت جائعاً حتى العظم. لاحظ «كيم» إقبالي السريع على الأكل، وهو على فكرة مهمته الأساسية كانت الملاحظة ودراستها وتقديمها إلى مَن يهمهم الأمر من أصحاب الاختصاص في علم النفس. وفي خضمّ معركتي مع هذا الطبق، مال «كيم» إلى اذني، وليته لم يفعل، ليهمس بفخر واعتزاز إن اللحم المقدّد هو لحم كلاب ُربيَّت في مزارع خاصة ويشرف على هذه المزارع شخصياً الزعيم المحبوب، ولا تقدم إلا إلى كبار الزوار أمثال بريجنيف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي، الذي غالباً ما كان يقوم بزيارات شخصية ورسمية للعاصمة الكورية.توقفت عن متابعة الاكل، بعد ان تخيلت صورة الكلب المسكين، مربى العزّ والدلال، فانقلبت معدتي رأساً على عقب وسارعت إلى أقرب «تواليت» لأتقيأ ما أكلته ولم آكله كله في تلك الليلة، وتوقفت عن أكل اللحوم الحمراء طوال ما تبقى من فترة زيارتي.هذا غيض من فيض. والحق اقول إنني لا أقصد الاستهانة بشعب كوريا الشمالية، بل حاولت أن أرسم «صورة كاريكاتورية» حقيقية عن عاداته ومعتقداته. غير أن هذا لا يمنع من القول إن في كوريا الشمالية شعب عظيم. عظمته تنبع من إيمانه العميق بانضباطه وبوطنيته وبالمبادئ التي يؤمن بها. وهو إلى جانب كل ذلك شعب صبور يستحق حياة أفضل.* كاتب لبناني