غريبة هي الدنيا حين تتفاوت درجة الحرمان والألم والحاجة حسب المكان والزمان... فهناك من يحتاج للحرية والمساواة... وآخرون في نفس الزمان وغير المكان جل ما يحتاجونه هو الأكل، وآخرون يحتاجون إلى أمصال تقيهم ضد الأمراض لا يتعدى سعرها بضعة فلوس كويتية.

Ad

صورة للمصور الشهير كيفن كارتر تحكي قصة مريرة مبكية تهز كل ضمير حي، التقطها عام 1993، حين ضربت المجاعة السودان. وهي لطفلة سودانية لا تتعدى ثلاث سنوات «حسب تقديري للصورة»، كانت تتضور جوعا وهي تزحف وحدها نحو معسكر الأمم المتحدة للإغاثة، الذي كان يبعد عنها مسافة كيلومتر واحد فقط، حيث فسر البعض سبب وجودها وحدها هو احتمال موت أهلها. وخلف الطفلة نسر استشعر دنو أجلها فانتظر لينقض عليها.

بقي كيفن قرب الطفلة مدة 20 دقيقة ثم غادر بالطائرة المروحية الوحيدة المتوافرة في المكان «حسب إحدى الروايات»... ولم يفعل من أجلها شيئاً!! ولا يزال مصير هذه الطفلة غير معلوم. وبسبب هذه الصورة حصل كيفن على جائزة بوليتزر «لأفضل صورة إنسانية» في 1994!، ولكنه لم يستطع «العيش مع ضميره» بعد أن فشل في إنقاذها... فانتحر بعدها بثلاثة شهور.

نتذكر هذه القصة بمناسبة مرور ذكرى اليوم العالمي لمكافحة الفقر في 17 أكتوبر الفائت، وتتزامن الذكرى هذه المرة مع الأزمة المالية العالمية، ليزيد على الفقر فقرا... وعلى الحرمان حرمانا... ولتتسع الهوة بين الأغنياء والفقراء... ليكونوا أكثر المتضررين على الإطلاق، وحسب آخر تقديرات الأمم المتحدة فإن ما يقارب 3 مليارات شخص، أي نصف العالم تقريبا، يعيشون تحت خط الفقر «وهو دولاران أميركيان يوميا» ويعانون الحرمان من الخدمات الصحية والتعليم؛ وهو أمر يدعو حقيقة إلى قلق بالغ، حيث إن هدف منظمة الأمم المتحدة في تخفيض عدد الفقراء الذين يعانون الفقر المدقع والجوع إلى النصف بحلول عام 2015 قد يكون محل شك في حال استمرت الكارثة المالية الراهنة.

إن ما يدعو إلى الألم والأسى أن ذكرى اليوم العالمي لمكافحة الفقر تمر علينا مرور الكرام دون مجهود يذكر من جانبنا... وها هي نفس الصور المؤلمة لأمهات ثكالى وأطفال يتامى يصرخون ويئنون من الجوع والمرض... ها هي تتكرر كل سنة حتى تعوّد الناس رؤيتها... تماما كما تعودت هياكل الفقراء الحرمان والجوع والألم. غريبة هي الدنيا حين تتفاوت درجة الحرمان والألم والحاجة حسب المكان والزمان... فهناك من يحتاج للحرية والمساواة... وآخرون في نفس الزمان وغير المكان جل ما يحتاجونه هو الأكل، وآخرون يحتاجون إلى أمصال تقيهم ضد الأمراض لا يتعدى سعرها بضعة فلوس كويتية... وآخرون في نفس الزمان ونفس المكان يعيشون بين ظهرانينا، هم فقراء البدون، محرومون من أدنى حقوق الإنسانية.

وبينما شارك، في العام الماضي، أكثر من 43 مليون شخص حول العالم في إحياء ذكرى اليوم العالمي لمكافحة الفقر... نتوانى نحن في الدفاع والمطالبة والسعي إلى حل أزمة غير محددي الجنسية، بل نلغي لجنة البدون البرلمانية بكل قسوة ولا مبالاة. وبينما تقوم منظمة الأمم المتحدة ومنظمات أخرى بجهود جبارة في حملاتهم ضد الفقر، دون الالتفات إلى دين أو عرق أو جنس أو جنسية هؤلاء الفقراء، نتخاذل نحن ونتهاون كثيرا عن مساعدة أبنائنا البدون الذين عاشوا وتربوا ودافعوا عن هذا الوطن وأبنائه.

تمر علينا الذكرى... ونحن ننتظر إقرار مجلس الأمة الحقوق المدنية والقانونية لغير محددي الجنسية بفارغ الصبر... فأحوالهم المعيشية والإنسانية تدمي القلوب وتعصرها... ليتهم يصورون لنا كيف يعيش فقراء البدون حتى تهتز الضمائر وتنتفض كما حدث لصورة الطفلة السودانية... ماذا عسانا أن نقول؟... ارحموهم يرحمكم الله.