حين تقف مذهولا أمام المنحوتات الجبارة المذهلة التي نحتها الفنان الذي لا مثيل له «رودان»، تشعر بتلك الطاقة الحية النابضة فيها، حتى لتكاد عيونها الحجرية تنطق بما تشعر به من إحساس، وتُرهب الرائي لها بإحساسها المشع من خلايا صخرها المصقول والنابض برغباتها التي جمّدتها يد النحات في حركة معجزة، وكأنها جُمدت لبرهة ومن ثمة ستعبر وتأتيك في الالتفاتة القادمة، فاحترز لأنها ربما ستقفز عليك بغتة.

Ad

ومن قوة الحياة التي تتدفق فيها، تنبهت إلى معجزة الحجر وزمنه المستحيل على المحل والأفول... كينونة عابرة لكل الأزمنة، متشبثة ببقائها حتى إن فنت الأمكنة وغابت أزمنتها، يبقى الحجر وحده هو العابر إلى الخلود، لهذا أعتقد أن التحريم جاء مانعا ومحرما نحته وأقامت تماثيله ربما لهذه الخصوصية المتمكنة من الخلود أولا، وثانيا لقدرتها على بث الخوف والرهبة اللذين يقبض عليهما الفنان ويجمدهما في لحظة ممتدة عبر الأبد، فما قيمة الإنسان تجاه جبروت الحجر، وهل لهذا السبب جاءت عبادته له ؟ أم أنه هو الفنان من أضاف إليه جبروته، ولهذا حُرِّم نحت التماثيل بعد عصر الجاهلية الذي أتصوره عصرا للفن بكل معطياته، وإن لم يتم البحث فيه بشكل جاد في فنون هذا الزمن المُسمَّى بالجاهلية الذي يبدو أن النحت فيه كان مزدهرا، أليس كل ما يُنحت قابلا للعبادة؟ فكيف لا يزدهر النحت فيها؟ هذا هو الخوف القادم من قدرة الفنان الكامنة في بث الحياة وتجسيدها في حجر قابل للديمومة والخلود.

خطرت لي هذه الأفكار وأنا متجمدة في انبهاري واندهاشي من تماثيل رودان المتجمدة في حياتها، مثلي في لحظة اندهاشي مخنوقة في سؤال: لماذا حُرِّم النحت في الإسلام؟ هل لأنه يُنطِق الحجر ويخلِّده عبر الأزمنة في حياة لا تعرف المحو ولا الزوال؟ أم لأنه يخلِّد الفنان ذاته في عبادة محبيه له وتقديسهم فنه عبر أزمنة يفنى فيها البشر وتبقى أعماله وحدها مُخلَّدة جيلا وراء جيل؟ هل التحريم كان ناتجا عن جبروت خلود الحجر؟ أم أنه نتيجة للخوف من تقديس الفنان وتخليده من قبل محبيه ومريديه؟ سؤال مُحيِّر حقيقة، لكنه في الواقع هو جبروت الفن العظيم القادر على فرض حضوره وسطوته، رغم كل الغياب هو الحضور الحافل والمزدهي والمحرك لكل الأسئلة الساكنة، كما يبقى الفنان واهبا لحياة في الحقيقة هي حياة مسروقة من حياته وطاقة جسده، فمن يرى كل هذه المنحوتات الضخمة التي تتجاوز في حجمها جسده بارتفاعات غير عادية وغير محتملة بالنسبة إلى أي إنسان، لكن الفنان يفني طاقته فيها، لهذا تأتي صاخبة بحياته التي استولت عليها في لحظات غياب وشغف مأخوذ بها. ويبقى متحف رودان ببوابته التي نحتها للجحيم، وتماثيله المتحركة الساكنة، فوق كل الأسئلة وكل الأجوبة، لأن الحيرة هي بوابة الاستفهام أمام كل فن عظيم.