ثار جدل في الصحف المصرية، قبل بداية عروض مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (18 ـ 28 نوفمبر) حول مدى صحة قرار تمثيل «بلطية العايمة» مصر في مسابقة الأفلام العربية الروائية الطويلة، على اعتبار أنه فيلم خفيف بلا مضمون، هدفه التسلية والإضحاك.

Ad

لكن الفيلم جاء، على خلاف ذلك، مهموماً بمسألة جادة تشغل الناس والرأي العام في مصر، وهي إخلاء الأثرياء ورجال الأعمال، بما يملكون من سلطات وتأثير، سواء عبر البرلمان أو السلطة التنفيذية، أماكن مميزة لنفسهم، وطرد السكان البسطاء منها ولو بالعنف و»البلدوزر»، لإقامة مشاريعهم الاستثمارية والسياحية الكبرى، محققين الملايين والمليارات، ولو على حساب أرواح البسطاء. إنه الموضوع (تناوله بلال فضل في مسلسله «هيما» في رمضان الماضي) الذي يعرضه الكاتب السياسي الساخر والمؤلف الدرامي الموهوب بلال فضل، ويخرجه علي رجب الذي تعاون مع المؤلف نفسه في فيلمين ناضجين جداً «صايع بحر» و»خالتي فرنسا».

تؤدي بطولة «بلطية العايمة» الممثلة القديرة عبلة كامل، البطلة في مسلسل «هيما» أيضاً، الى جانب مي كساب وإدوارد وسامي العدل وسعيد طرابيك ومجدي صبحي، فيما يبرز إسم الفنان القدير محسن نصر كمدير تصوير لهذا العمل.

يبدأ الفيلم بعدد من أصحاب المشاريع الكبرى، ورغبتهم المحمومة في الاستيلاء على كل شبر في مصر قد يدرّ عليهم ربحاً، فيركّزون نظرهم على منطقة يسكنها فقراء وصيادون في الإسكندرية، لكن المشكلة الوحيدة أن هؤلاء بشر ينبغي إزاحتهم، ومساكنهم البسيطة لا بد من إزالتها، لتنشأ مكانها مشاريع استثمارية وسياحية عملاقة، وهنا تبدأ الضغوط والإغراءات، وصولاً إلى القهر والإرغام.

والإرغام كان ضرورياً فعلاً مع إحدى قاطنات هذه المنطقة، «سيدة» الشهيرة ببلطية العايمة، تؤديها عبلة كامل بإحساس ورهافة تمس شغاف القلب، فهذه المرأة البسيطة التي تقف على عربة «بليلة» تصنعها بذوق ويحبها أهالي الحي، هي أول من يرفض التفريط في البيت ومهما كان الثمن وهي آخر من يقبل مضطرة في لحظة ضعف لكن بعد فوات الأوان، إذ لم ينس لها أصحاب المشروع وقفتها في مواجهتهم، وعرقلتها خطتهم!

وما بين مقاومة سيدة، ثم إزالة بيتها، تدور أحداث الفيلم، التي جعلتنا على رغم الضحكات، نشعر بالدموع في عينينا بينما «بلطية» في مشهد (من مشاهد الذروة) تقول كلمة في احتفال بفوز مصوّر التقط لها الصور وشارك بها في إحدى المسابقات.

تمنح «سيدة» الشاب مكافأة مالية، فيما لم تسمع هي سوى تحيات ومكافآت معنوية، لكنها على رغم إحباطها الشديد تتحدث بكبرياء الفقراء الطيبين المعتدين بنفسهم وأصالتهم، ثم تغادر المكان ومعها أطفالها وأختها «موجة» (مي كساب) بالأزياء الزاهية التي اختلقتها لهم (زينتها أو زيفتها لهم كما تقول) ليكونوا على هيئة تناسب الحفلة، عائدين إلى بيتهم ومأواهم الفقير يتقافزون فرحاً، لكنهم ما كانوا يدرون أن في تلك اللحظات تماماً كان «بلدوزر» السادة الطامعين في بيتها وجميع بيوت فقراء الحي، لإقامة تلك المشاريع الاستغلالية، يهدم ويزيل كل حائط تماماً... والحق أن هذا ما تشهده مصر، قبل الفيلم وبعده حتى الآن، وفي أكثر من مكان وليس في القاهرة أو الإسكندرية وحدها!

تمر بطلتنا بلحظة ضعف فتعرض بيتها للبيع... تكاليف زواج أختها لم تكن سبباً كافياً لهذا التنازل، خصوصاً بعد مقاومة طويلة، وعلى أية حال فرجل الأعمال يرفض، وينوي الانتقام من «سيدة» لأنها أكثر من قاوم البيع وحرّض الجميع على عدم التنازل.

لحظة الضعف هذه تعطي طابعاً إنسانياً أكثر للشخصية، والفيلم كله يتسم بمراوحة شخصياته، خصوصاً بطلته، بين الأمل واليأس، التعثّر والمقاومة، الدمعة الحارة والبسمة العذبة، حتى لو لم يكن أمام «بلطية»، كما في المشهد الأخير للفيلم، سوى البحر والرب يشكوه المرء... وهذه هي الحياة.