هل ما يحدث في غزة هو انتحار جماعي لأهلها؟ الدرس الأول في الأخلاق الاسلامية هو أن الانتحار يمثل أقرب طريق الى جهنم.

Ad

سأقارن هنا بين ما يحدث في غزة الآن، وبين ما حدث مع اليهود يوم السبت «العيد اليهودي» السابع عشر من مارس عام 1190، يومها ثارت ثائرة أهالي «يورك» الانكليزية على المرابين اليهود فأحرقوا منازلهم وأحرقوا سندات الديون اليهودية على أرضية الكنيسة، وحوصر اليهود في شوارعها حتى لجأوا إلى قلعة يورك الشهيرة في برج كليفورد وهو الجزء المتبقي من القلعة الآن، ولم تكن هناك فرصة للمتحصنين سوى مقاومة الموت أو الموت، فقرر القائد اليهودي رفض الاستسلام أو الموت تحت التعذيب، واجتمع القائد برفاقه المحاصرين وأخذوا قرارا يبدو غريبا وشاذا، وهو أن ينهوا حياتهم بأيديهم لا بأيدي محاصريهم، وكانت الطريقة الوحيدة هي أن يقتل بعضهم البعض الآخر حتى آخر رجل وعلى هذا الأخير أن ينتحر، وأول من نفذ عملية القتل هو جوزيف اليهودي الذي قتل زوجته آنا وأطفاله بيده، وهكذا قتل كل منهم الآخر ليدخل المحاصرون القلعة ويجدوا جثثا يهودية أجهزوا على من بقي حياً منها.

مازالت حتى اليوم تتباين الدروس الفلسفية في واقعة الانتحار تلك، وما أريده منها هنا هو التطبيق العكسي لليهود لهذه الحادثة على أهالي غزة، الشعب المحاصر في قلعة غزة اليوم ليس أمامه سوى ثلاثة خيارات: المقاومة أو الاستسلام أو الانتحار الجماعي، أما خيار النصر فيبدو صعبا تحت طائلة حصار لو استمر أشهرا أخرى فسيموت الشعب جوعا ومرضا وقصفا جويا وبريا وبحريا، والذخيرة المتاحة ستنفد والمؤونة تنقص ولا تزيد، أما الهرج والمرج الزائد والزائف خارج حدود قلعة غزة فلن ينقذ طفلا ولن يعالج جريحا.

الذين يبكون القتلى في غزة ليسوا بني عروبتهم فقط ولكن ينضم اليهم أعداؤهم أيضا، فالذين ناصروا الحكومة الاسرائيلية على انهاء حركة حماس تظاهروا ضد الحرب بعد أسبوع من قيامها، حين لاحظوا أن الفتك العشوائي يستهدف النساء والأطفال، الأطفال الذين تعتبرهم اسرائيل مشاريع ارهابية مستقبلية والنساء حاضنات الأجنة الارهابية.

الروائي الاسرائيلي أ. ب. يهوشوا يرى أن الناس في غزة هم في الأول والأخير جيران اسرائيل التي عليها أن تعيش معهم جنبا الى جنب في المستقبل، لكن جميع من يصرخ من بعيد لنصرة غزة سيترك أهل غزة أمام خياراتهم الثلاثة المذكورة أعلاه.

ما تطلبه غزة هو الابقاء على حياتها، عاشت غزة فترات طويلة وعينها تنظر الى البحر بحثا عن سفينة طعام والأخرى تنظر الى البر بحثا عن شاحنة دواء، وحين اشتد حصارها لم تجد أمامها سوى طريق تفجير الموقف فإما أن يُرفع حصارها أو تقاتل حتى الموت.

هذه الحرب أبعدت فكرة قيام دولة فلسطينية، ورد الاسرائيليون على الروائي يهوشوا الذي كثيرا ما طالب بدولة فلسطينية الى جوار الدولة العبرية كان واضحا، والغريب أن اليسار الاسرائيلي هو صاحب الرد وليس اليمين هذه المرة، «انه حلم بعيد المنال؛ رسالتك ليس لها أن تصل»، قال له منظم المظاهرات المناوئة للحرب نوريت بلتاينزكي.

لم يبقَ أمام غزة سوى خيار المقاومة أو رضوخ العدو لفك حصارها، وما نعول عليه اليوم ليس أكثر من الخوف الاسرائيلي، الخوف من أن تجد اسرائيل نفسها محاصرة في ذات الوقت الذي تضرب حصارها حول غزة، حينها سترى أنها تقاتل شعبا يختلف عن شعبها وفلسفته شعب لن يذبح نفسه بيده، ولن يموت من دون أن تدفع هي ثمن موته.