الفتنة الكبرى
لا جديد في الحديث عن همجية إسرائيل ووحشيتها، لا جديد في معاناة فلسطينيي الأرض المحتلة وقلة حيلتهم، لا جديد في الهوان والذل العربي، لا جديد في ضياع الكرامة وفقدان الأمل لدى الشعوب العربية، ولكن الجديد- وليته لم يكن- في الانقسام والخلاف العربي وليس الخلاف بين الحكومات (فهذا أيضا قديم) ولكنه الخلاف بين الحكام وأنظمة الحكم من جهة والشعوب العربية من جهة أخرى، وإذا كان كل فرد يفخر بالانتماء إلى وطنه ولا يسمح بالهجوم عليه فمن حقنا جميعا دون فرق بين مصري وخليجي أو بين شامي ومغاربي أن نناقش الأنظمة الحاكمة والحكام العرب العاجزين الذين يسيؤون إلى أنفسهم وإلى شعوبهم قبل أن يسيء إليها الآخرون.
نعم، مصر أكبر من كل المهاترات التي يقوم بها البعض... نعم، مصر أكبر من أن تهينها مظاهرة هنا أو مسيرة هناك... وأقولها بصدق إن مصر أكبر من حكامها الخانعين المتخاذلين، نعم مصر بشعبها وتاريخها أكبر بكثير من المواقف الضعيفة التي يتخذها النظام الحاكم فيها. لا مزايدة على مصر في القضية الفلسطينية أو غيرها من القضايا العربية... لا مزايدة على الشعب المصري ونصرته للشعوب العربية من ثورة الجزائر لانتفاضة فلسطين... لا مزايدة على شعب النيل العظيم في تضحياته التي شملت كل شيء وبلغت أعلى مقام من أجل نصرة أمته العربية. إن الربط الذي يقوم به البعض بين موقف مصر وموقف غيرها من الدول العربية وسؤالهم (صدقا أو نفاقا) لماذا نطالب مصر وحدها باتخاذ المواقف، وبذل التضحيات؟ هو سؤال مرفوض وباعث للفتنة، فمصر بدورها وتاريخها أكبر من أن تنتظر موقف أحد أو تسير وراء أحد. إن مصر مطالبة ولو بمفردها باتخاذ موقف داعم حقيقي لغزة دون النظر إلى مواقف الآخرين لأنه (وليغضب من يغضب) لو اجتمع العرب كلهم- دون مصر- واتخذوا ما شاؤوا من قرارات ولو قطع العلاقات لما أثر ذلك في إسرائيل ولا غيرت سياستها أو مواقفها، أما إذا ألمحت مصر إلى إلغاء معاهدة كامب ديفيد مثلا لتأثر الموقف الإسرائيلي وتبدل... لماذا؟ لأنها مصر التاريخ والزعامة والقيادة، وهذا هو قدرها الذي تحملته راضية سعيدة وتحمله شعبها سنوات طوالاً لم يئن ولم يشتك. إن مصر هي الفاعل الرئيس في حل هذه الأزمة، وعلى حاكمها أن يدرك ذلك جيدا، وعليه كذلك أن يتعلم من دروس التاريخ وليس ببعيد موقف سلفه من نفس الحدث في مارس 1978 عندما قامت إسرائيل بغارة على جنوب لبنان ردا على عملية قامت بها المقاومة الفلسطينية آنذاك فماذا كان موقف سلفه؟ وأين هو الآن؟ إن الخلافات الفلسطينية التي يتخذها الحكام العرب «ورقة التوت» ليتخفوا وراءها ويتحججوا بها لم تعد كافية يا حكامنا لستر عوراتكم ومذلتكم وهوانكم أمام شعوبكم، إذ فقدتم كل كرامة وهيبة ولم تعد بياناتكم وأجهزة إعلامكم تقنع أحدا، فالجميع يدرك ويعلم أن تلك الخلافات التي تتخفون وراءها هي صنيعة أيديكم، ونتاج أفعالكم، فبالله عليكم هل كان المدعو محمود عباس يستطيع بجرة قلم أن يطيح بحكومة «حماس» الشرعية المنتخبة من الشعب الفلسطيني لولا تأييد ودعم أنظمة العمالة العربية وحلف التسوية الذليلة له؟ وهل كان يستطيع إقالة الحكومة من جانب واحد لولا وقوف أنظمة عربية خانت شعوبها وخانت أنفسها وراءه؟ على من تضحكون؟ إن الشعوب العربية هي التي تسخر منكم ومن بياناتكم يا حكام العرب، فلا داعي للهروب إلى الأمام وتقديم الخلاف الفلسطيني وجعله «ورقة التوت» التي تستر عوراتكم. إن المحاولة الأخيرة لإلهاء الشعوب الغاضبة وصرف أنظارها تجاه مجلس الأمن، وجعل الحصول على قرار منه بوقف الغزو منتهى الآمال ومبلغ الأحلام، حديث لا قيمة له، فلو افترضنا أن مجلس الأمن أصدر القرار- وهذا بعيد جدا- فهل ستلتزم به إسرائيل؟ لا يا سادة... لم تعد الشعوب غبية أو سهلة الخداع، ولكنها فقط صابرة ومنتظرة ليوم الحساب، وعساه قريبا إن شاء الله.