في الشطر الأول من هذه المقالة تطرقت إلى الجانب الأدبي في شخصية رسام القصص المصورة البلجيكي الشهير (هيرجيه)، مبتكر شخصية الصحافي المغامر (تان تان)، وقد عرضت في هذا الصدد ما خلص إليه الكاتب (توم مكارثي) في كتابه (تان تان.. وسر الأدب) من حكم نقدي رأى فيه أن (هيرجيه) كان مزيجا من الرسام والروائي.

Ad

أما الجانب الآخر المهم من شخصية هذا الرسام، وهو جانب الباحث المدقق، فقد تكفل بإضاءته الكاتب (مايكل فار) الذي يعد مختصا بما يسمى (التانتانية)، فقد صدر له عن دار نشر (جون موراي) عام 2001 كتاب فريد عنوانه (تان تان - الرفيق الكامل)، عرض فيه لهيرجيه الباحث المدقق، وذلك بتتبع دراسات الرسام للمواقع والأزياء والأدوات والوسائل والطبائع التي تضمنتها مغامراته، فأرانا الأصول التي استلهم منها رسم الأشخاص والأشياء كالغواصات والسفن والطائرات والمركبات الحربية والمعابد القديمة والتماثيل ووسائل ريادة الفضاء في عصره... إلى غير ذلك من التفاصيل الدقيقة التي يجدها القارئ ماثلة في أعماله.

وفي هذا السياق لابد لي أن أذكر، بدهشة وإكبار، روعة القص، وعظمة التجسيد في مغامراته (رحلة إلى القمر) التي وصف فيها معدات مركبة الفضاء، ومستلزمات الرحلة إلى القمر، وشروط الانطلاق والهبوط ثم العودة وذلك قبل زمن طويل من هبوط الأميركي (نيل آرمسترونغ) ورفاقه على سطح القمر!

وليس هنالك أدنى ريب في أن (هيرجيه) كان قد اطلع على أعمال عباقرة قصص الخيال العلمي، من أمثال الإنكليزي (هـ.ج. ويلز) والفرنسي (جول فيرن)، وغيرهما، لكنه أراد أن يميز نفسه عمن سبقوه، في هذا المجال، بأن يكون عمله مبنيا على أسس علمية دقيقة، وليس على التخيل المجرد.

ولذلك نجده قد اهتم كثيرا باستشارة صديقه عالم الفضاء الدكتور «بيرنارد هويفلمان» صاحب كتاب «الإنسان بين النجوم» كما عكف على استشارة عالم فضاء آخر هو البروفيسور «ألكساندر أنانوف» مؤلف كتاب «ريادة الفضاء».

وبعد كل جهوده الحثيثة في البحث، أمكنه، في النهاية، أن يؤسس روايته الخيالية على دعائم علمية وطيدة، مما أكسبه فرادة بين كبار هذا الفن، سواء من الناحية الروائية أو التقنية.

ومما له دلالة خاصة في هذا الشأن، أن الفرنسي المختص بأعمال هيرجيه «بينوا بيترز» كان قد نشر ضمن كتابه «صناعة رحلة تان تان إلى القمر» صورة لقاء تم في بروكسل عام 1969 بين «هيرجيه» و»فرانك بورمان» أحد رواد مركبة الفضاء الأميركية «أبوللو ـ8» وفي تلك الصور كانت قد وضعت بين الرسام ورائد الفضاء نسخة من مغامرة «رحلة إلى القمر» وكأن تلك النسخة دليل إثبات على أن الفنان القدير قد سبق الرواد الأميركان إلى استكشاف القمر!

وكمثل آخر على دقة بحث الرسام، يلفتنا إتقانه لرسم طبيعة الحياة والأزياء والمساكن في الصحراء العربية، ففي مغامرة «تان تان والذهب الأسود» تبين لي أنه قد استلهم رسم شخصية الأمير «بن كاليش» أحد أبطال القصة، من صورة لمؤسس السعودية الملك عبدالعزيز، كما استلهم رسم ولده الصغير المشاكس من صورة لملك العراق الراحل «فيصل الثاني» كانت قد التقطت له في طفولته المبكرة... وقس على ذلك.

بالنسبة لي، كان تعرّفي على مغامرات «تان تان» قد جرى في أوائل الستينيات، بفضل مجلة «سمير» الصادرة عن دار الهلال بمصر، حيث بدأت المجلة، في ذلك الوقت، نشر تلك المغامرات مسلسلة بواقع أربع صفحات في الأسبوع.

وقد بهرت وأقراني، حينذاك، بدقة وقوة الرسم وجماله ومهابته، وببراعة القص، وهو ما لم نكن قد عرفنا مثيلا له في المسلسلات المصورة الأخرى.

ولابد أن أذكر هنا أن (التمصير) قد زاد تلك المغامرات حلاوة وروح فكاهة. ذلك لأن الكلام كان يجري باللهجة المصرية، كما أن أسماء معظم الشخصيات قد تحولت إلى أسماء ذات نكهة مصرية، ففي حين بقي اسم القبطان البحري (هادوك) على أصله، رأينا (تان تان) بالفرنسية، أو (تن تن) بالإنكليزية، قد تحول في مجلة (سمير) إلى (تم تم). أما البروفيسور (كوثبرت كالكولاس) في الطبعة الإنكليزية فقد أصبح اسمه (برجل)، وتحول اسما المخبرين التوأمين (توميسون وتومسون) إلى (تيك وتاك). وبينما كان (هادوك) الغاضب يلعن، في الطبعة الإنكليزية، بكلمات مستمدة من طبيعة البحر والأنواء مثل (بلسترنغ بارنيكالس ثاندرنغ تايفون)، فإنه اعتاد بالطبعة المصرية أن يلعن على وتيرة مكررة هي (ألف ألف مليون لعنة)... وبدلا من أن يخاطب خصمه الأسمر قائلا (أيها البريري المتوحش) فإنه أصبح يناديه بالطبعة المصرية بقوله (يا زتونة مدهونة)!

لقد تسنى لي، على مر الأيام أن أستجمع معظم تلك المغامرات بطبعتها العربية الصادرة عن (دار المعارف بلبنان)، ثم توافرت لي بأجمعها، لاحقا، بالطبعة الإنكليزية، ولاأزال حريصا على أن يكون لها في مكتبتي مكان خاص وعزيز، كما لاأزال منذ تعرّفي على تلك المغامرات حتى اليوم، أعود بين فترة وأخرى إلى قراءتها فأشعر، على الدوام، بالمتعة ذاتها، وكأنني أقرؤها لأول مرة.

* شاعر عراقي