Ad

ما يثير الانتباه في كتاب «أسني سيرستاد» أنه يعرض لنا فصلاً جديداً من فصول ظاهرة حرق الكتب في التاريخ، وهو ما ينبغي أن يضيفه «البرتو مانغويل» إلى فصول كتابه الشهير «تاريخ القراءة» الذي استعرض فيه تلك الظاهرة منذ بداية عصر الكتب حتى تاريخ صدوره.

في كتابها الصادق والأخّاذ «بائع الكتب في كابول»، تروي لنا الصحافية النرويجية «آسني سيرستاد» وقائع حياة أسرة أفغانية، عاشت الكاتبة معها كواحدة من أفرادها خلال عام 2001 بعد أن تعرفت بالمصادفة على رب هذه الأسرة بائع الكتب «سلطان خان» الذي أراها، منذ لقائها الأول به في مكتبه، الوجه الآخر للأفغان: وجه الأناقة والذوق والامتلاء الثقافي.

إن «سلطان خان» هذا ليس بائعاً للكتب فقط فهو، كما تصفه الصحافية في مقدمة كتابها، مواطن عمل جاهداً من أجل إنقاذ ثقافة بلاده، بينما كانت سلسلة من الدكتاتوريات تعمل كل ما بوسعها لتدمير هذه الثقافة. ومن خلال إلمامها بتفاصيل معاركه في هذا السبيل، ترى أنه هو نفسه قطعة من تاريخ الثقافة الأفغاني، وتخلص إلى وصفه بأنه كتاب تاريخ يمشي على قدمين.

عالم هذا الرجل، كما يقدمه الكتاب، هو عالم صنعته الكتب، ولذلك فإنه لا ينحاز الى عهد من عهود الحكم في بلاده، ولا يتذمر عن عهد آخر، الا بمقدار ما تقترب تلك العهود من الكتاب أو تبتعد عنه ذلك لأن انحيازه وولاءه المطلقين هما لدولة الكتاب وحدها، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وهو على هذا متوافق تماماً مع دستور هذه الدولة من حيث إيمانه بالتنوع، إذ لا يتورّع في عز الحكم الشيوعي عن بيع المنشورات والكتب الدينية برغم عدم انتمائه إلى أي جهة دينية، كما لا يتورّع في عز الحكم الديني عن بيع الكتب اليسارية أو الليبرالية عموماً، برغم كونه رجلاً متديناً مؤدياً للفرائض.

لكن ولاءه هذا لدولة الاختلاف الإيجابي التي لا تحدها الأسوار، جعله عرضة للاضطهاد من قبل الدول الأخرى جميعها ذات الزي الموحد، الجاهلة منها والمثقفة، والمؤمنة منها والملحدة على حد سواء!.

ما يثير الانتباه في كتاب «أسني سيرستاد» أنه يعرض لنا فصلاً جديداً من فصول ظاهرة حرق الكتب في التاريخ، وهو ما ينبغي أن يضيفه «البرتو مانغويل» إلى فصول كتابه الشهير «تاريخ القراءة» الذي استعرض فيه تلك الظاهرة منذ بداية عصر الكتب حتى تاريخ صدوره.

إن هذه الظاهرة تتجدد بوتيرة لا تهدأ، بغض النظر عن اختلاف الأزمان والأماكن والطبائع والإيديولوجيات. منذ أن أحرق القيصر الصيني «شيهوانغ تي» الكتب جميعها الموجودة في امبراطوريته عام 241 قبل الميلاد.. ظلت نيران محارق الكتب تندلع هنا وهناك حتى بلغت ذروتها على يد النازيين عام 1933، لكنها لم تنطفئ ولا أظنها ستنطفئ أبداً، إلا إذا خلت الأرض من الطغيان، وهو أمر لا تشجعنا ديدان العبودية الكامنة في الناس على أن نعقد الأمال على حدوثه.

لم يكن «سلطان خان» قريباً من الحرية أو بعيداً عن عين الرقيب خلال حكم الملك «ظاهر شاه»، لكنه يشهد أن الأوضاع صارت أسوأ بعد انقلاب ابن عمه «داوود» عليه، وتنصيب نفسه رئيساً للبلاد.

وما إن استلم الشيوعيون مقاليد السلطة بقيادة «نور الدين طراقي»، حتى اندلع الحريق، بأمر رسمي، في كتاب «سلطان خان» الذي سُمي على الفور عدواً للشعب لحيازته وبيعه كتباً دينية أو بورجوازية!

المفارقة المضحكة هنا هي أن هذا الشعب الذي كان سلطان «عدوه»، وفقا لهذه التهمة، هو بأجمعه شعب مسلم ومتدين، وهو بغالبيته العظمى أمّي حتى النخاع!

ولم يلبث المجاهدون ضد الشيوعية أن نهبوا ودمروا ما تبقى من كتب سلطان. وفي اعقاب هؤلاء عكف الرجال على ترميم مكتبته وضخ شيء من العافية فيها، وكأنه كان يستعجل تهيئتها لمشاعل «طالبان» وتهيئة نفسه ليكون هذه المرة، وعلى الفور أيضاً، عدواً للشريعة... وهي تهمة يكفي لإثباتها مجرد وجود صورة لإنسان أو حيوان على غلاف أحد الكتب، باعتبارها من المحرمات في قانون النظام الجديد، وهي محرمات سهّلت عمل الموكلين بواجب الرقابة والتدمير، لأن معظمهم كان من الأميين!

وبعد زوال «طالبان» عاهد الرجل نفسه، بعد ان وسع عمله فافتتح ثلاث مكتبات في العاصمة، على أن يستبق أي محرقة جديدة بالتبرع بكل ما يملكه من كتب لمكتبة الدولة العامة التي جرَّدها تعاقب الأنظمة المستبدة من دمائها وروحها وجلدها... وهو يستهدي في هذا السبيل بشطر بيت للشاعر الفارسي الشهير «الفردوسي» يقول فيه: «لكي تنجح.. ينبغي أن تكون ذئباً في بعض الأحيان، وأن تكون حملاً في أحيان أخرى»... و«سلطان خان» يرى أن الوقت قد حان لكي يكون ذئباً لكن مشكلة سلطان، وكل من هم على شاكلته، هي أنه طالب ثقافة، فيما لا تنفع وصفة الفردوسي تلك سوى الجهلة والأفاقين من طلاب السلطة.

إن الكتب نفسها، على مر التاريخ، تفيدنا بأن فتيل محارق الكتب لا تشعله إلا الأنظمة ذات الإيديولوجيات الشمولية سواء أكانت نابعة من سابع أرض للجن، أو ملتحفة بذريعة كونها ظِلّ السماء على الأرض. ولعل في هذه الحقيقة ما يمنح المغول ميزة خفة الظل بإزاء الجبارين جميعهم الذين دمروا البلاد والعباد في أدوار التاريخ المختلفة. إنهم قوم مقاتلون فقط... يأتون إلى البلدان من دون أن يكون الفكر الشمولي معلقاً بمقابض سيوفهم. ولذلك فهم بعدما يحرقون الكتب ويهدمون الأبنية، ويستقرون في الأماكن التي اجتاحوها، ثم لا يلبثون أن يدخلوا في دين ضحاياهم، ويلتمسوا من هؤلاء الضحايا صدقة من علم تبدد جهل سيوفهم ... ثم يشرعون فوراً في إنشاء الحضارة!

إن مَن يُضرمون النار في الكتب هم جهلة كافرون بإرادة الله... وبحق الإنسان، مهما استندوا إلى كتاب أو افتخروا بثقافة.

وإن الملقين بأنفسهم في نار العذاب من أجل إنقاذ الكتب من النار... هم المجاهدون حقاً، مهما كانت أديانهم أو أجناسهم.

* شاعر عراقي