الناظر إلى ميدان القلعة بالقاهرة يمكن أن يرى فيما يحيط به من منشآت أثرية غابة من المآذن المتنوعة الأشكال المتباينة في أحجامها وارتفاعاتها إلا أن مئذنة مسجد قاني باي الرماح تبقى فريدة في نوعها وجديرة بالتأمل وحدها.

Ad

مشيد هذا المسجد هو أحد الأمراء الكبار في دولة السلطان الأشرف قايتباي وكان يتولى وظيفة "أمير آخور” أي الإشراف على الاصطبلات السلطانية في وقت كانت فيه الخيول هي مركبات الحرب وشارة من شارات الشرف العسكري، وشيد قاني باي الرماح مسجدا آخر باسمه في حي الناصرية بالقاهرة واتخذ له مئذنة مماثلة لتلك المئذنة القائمة فوق مسجده بميدان القلعة. وتقوم هذه المئذنة على يسار الباب العمومي وهي مبنية بالحجر وفقا للنظام المشهر وهو ذات النظام الذي شيدت به واجهات المسجد ويعتمد هذا النظام على استخدام مداميك حجرية باللونين الأصفر والأحمر بالتعاقب.

ومنارة مسجد قاني باي مؤلفة من ثلاثة طوابق جميعها تعتمد على المسقط الربع فالطابق الأول المتعامد الأضلاع نراه كثيرا في مآذن العصر المملوكي وبوسط كل ضلع من أضلاعه الأربعة فتحة إضاءة مربعة تتوسط حنية على جانبيها عمودان رخاميان رشيقان يحملان عقدا مدببا على طريقة ألفناها في عمائر الأندلس.

ويتوج الطابق الأول صفوف من المقرنصات الحجرية التي تحمل شرفة آذان مربعة ذات سياج خشبي وربما حل هذا السياج مكان سياج حجري سقط بعد بناء المئذنة.

أما الطابق الثاني فقد جاء متعامد الأضلاع عوضا عن استخدام المقطع المستدير أو شكل المثمن كما هو الحال في أغلب المآذن المملوكية، ولكن هذا الطابق جاء أقل ارتفاعا وسعة من الطابق الأول وكأنه صدى له حتى فيما يتعلق بالمقرنصات التي تتوجه إذ جاء عددها أقل أيضا وعمد المهندس الذي أبدع هذه المئذنة إلى الحفاظ على إيقاع دوراتها، فجعل الطابق الثالث متعامد الأضلاع أيضا، ولكن على هيئة بدنين مربعين صغيرين حليا بالمقرنصات وتوج كل واحد منهما بخوذة قبة صغيرة تعرف في مصطلح العصر المملوكي باسم القُلة.

وهذه الوحدة التي تجمع مكونات المئذنة والحفاظ على إيقاع السعة والارتفاع المتناقص كلما اتجهت إلى أعلى منحت مئذنة قاني باي شخصيتها المتفردة وسط كل مآذن ميدان القلعة وهذا النموذج من المآذن المملوكية ظهرت له نماذج تميزت لاستخدام الرأس المزدوجة في قمة المئذنة ولكن مئذنة قاني باي تختلف عنها في اعتماد المقطع المتعامد لكل أجزائها.

رؤوس مزدوجة:

وقد عرفت مصر المآذن ذات الرؤوس المزدوجة منذ نهاية القرن التاسع الهجري فرأيناها في منارة جامع الغمري بميت غمر، كما كانت كذلك مئذنة مسجد جان بلاط بجوار باب النصر قبل أن تهدم سنة 1214هـ 1799م إبان الاحتلال الفرنسي لمصر، وهناك أيضا مئذنة الغوري التي شيدها في الجامع الأزهر. ويظهر أن مهندس قاني باي قد تأثر بفكرة الرأس المزدوجة وألحقها بتصميم معماري لم يسبقه أحد إليه. وبقيت مئذنة هذا المسجد قائمة إلى أن هدمت حوالي سنة 1870م لخلل طرأ على بنيانها نتيجة لاعتداءات الأهالي على مبنى المسجد حتى أن واجهته حجبت تماما بواسطة حوانيت شيدت بشكل عشوائي.

ونتيجة لتدهور حالة المسجد وجهت لجنة حفظ الآثار العربية عنايتها لإنقاذه من خطر الاندثار، فأزالت الحوانيت من واجهة المسجد وقامت بإصلاح وترميم أحجار الواجهة في سنة 1333هـ 1914م كما أزالت السقف الذي شيده الأهالي لتغطية صحن المسجد وأزالت طبقة البلاط التي كانت تحجب الزخارف الملونة والمذهبة التي كانت تزدان بها جدران المسجد وأعادت بناء الإيوان الغربي المواجه لإيوان القبلة بعد أن تعرض لتلف ودمار كبيرين.. وأصلحت اللجنة قاعدة المئذنة في سنة 1335هـ 1916م. ولكن المئذنة أخذت تتأثر بشدة من جراء حركة العمران الواسعة من حولها مما دفع لجنة حفظ الآثار العربية إلى فك أحجارها وكذلك سبيل الماء المجاور لها وأعيد بناء المئذنة والسبيل معا في سنة 1358هـ 1939م.

وخلال هذه الترميمات استعانت اللجنة بصور شمسية كانت تحتفظ بها لجنة حفظ الآثار العربية قبل هدم المئذنة وهي من إهداء الأثري فرانس باشا بالإضافة إلى صور أحدث عهدا كان قد قام بالتقاطها فوتوغرافيا عالم الآثار البريطاني كريسويل وقت أن كان ضابطا في خدمة الجيش البريطاني في مصر قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبالإضافة إلى الصورالفوتوغرافية اقتبست اللجنة من مئذنة مسجد قاني باي الرماح بالناصرية وكانت نسخة منها.

وفيما بقيت مئذنة قاني باي بالقلعة قائمة إلى يومنا هذا فإن شقيقتها بالناصرية قد صادفها الحظ العاثر عندما سقطت قبل نحو خمس سنوات وقت إجراء بعض أعمال الترميم في المسجد، حيث أدى صلب جدران المسجد دون بناء المئذنة إلى حدوث خلل في اتزان تربة الأثر مما أدى لسقوط المئذنة ليلا.

والمئذنة الحالية جزء من الصورة الجميلة لهامة مسجد قاني باي الرماح بالقلعة والتي تضم إلى جانب المئذنة قبة حجرية لا مثيل لها في العمارة الإسلامية بمصر وهي من النماذج القيمة التي تتجلى فيها عظمة القباب المملوكية فهي بارزة عن واجهة المسجد الرئيسية وبنواصيها عمد حجرية منقوشة ونقش سطحها الخارجي بزخارف مورقة جميلة "أرابيسك” جعلت خوذة القبة عنوانا على تآلف الفن المعماري مع الفنون الزخرفية الإسلامية.

ونقشت حول رقبة هذه القبة كتابة بخط الثلث المملوكي نصها "بسم الله الرحمن الرحيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم "آية الكرسي” أمر بإنشاء هذه القبة المباركة المقر الأشرف الكريم العالي السيفي قاني باي أمير آخور كبير الملكي الأشرفي.

أما جدران القبة من الداخل فقد غشيت بوزرة رخامية انتهت بإفريز لبست فيه زخارف بالمعجون الملون كما نقش عقد المحراب وطاقيته بجفوت متقاطعة ومكتوب أعلاه "بسم الله الرحمن الرحيم قد نرى تقلب وجهك في السماء” ويحيط بمربع القبة من أعلى إفريز كتابي نقش به "بسم الله الرحمن الرحيم وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا” الآية صدق الله العظيم أمر بإنشاء هذه القبة المباركة المقر الأشرف الكريم التالي المولوي الأميري الكبيري السيدي السندي الفخري العضدي المالكي المخدومي السيفي قاني باي أمير أخور كبير الملكي الأشرفي بتاريخ مستهل شعبان المكرم عام ثمان وتسعمائة.

أما مسجد قاني باي فقد شيد على طراز المدارس المملوكية, حيث يتألف من صحن أوسط مكشوف تحيط به أربعة إيوانات أهمها وأكبرها إيوان القبلة ومحراب القبلة من أجمل نماذج المحاريب المملوكية الحافلة بالزخارف الرخامية والمذهبة وإلى جوار المحراب منبر خشبي صغير من حشوات مجمعة على شكل الأطباق النجمية وقد طعمت هذه الحشوات بالسن.

وعلى جانبي المنبر دولابان خشبيان حليا بزخارف نباتية مورقة وعلى جانبي إيوان القبلة شبابيك نقشت أعتابها بزخارف دقت في الحجر مما يبرهن على أن أرجاء المسجد كانت حافلة بالزخارف المترفة.