مع قرب انتهاء ولاية جورج بوش الابن ساد لدى بعض الدوائر الإعلامية العربية وفي بعض الفضائيات الانطباع بأن زمن الدعوة للديمقراطية سينتهي برحيل الرئيس الذي أقام سياسته- خطابياً- على الدعوة إليها وعلى الأخص بعد احتلال العراق في مايو 2003 حيث أخذ يكرر، هو وأفراد إدارته، هذه الدعوة، بينما كان العراق يشهد أسوأ أنواع العنف في تاريخه منذ ذلك الحين!

Ad

وإذا كان لتجارب التاريخ الحديث من معنى، فإن أحد أسلافه، وهو الرئيس الأميركي الثامن والعشرون، وودرو ويلسون، صاحب دعوة الديمقراطية وتقرير المصير، قد دعا الدعوة ذاتها بنهاية الحرب العالمية الأولى (1918) وسافر إلى أوروبا لإرساء قواعد السلام الجديد من خلال إنشاء «عصبة الأمم» والعمل على ضم الولايات المتحدة، التي سادتها نزعة «انعزالية» حينئذ، إليها!

وقد طرح ويلسون مبادئه الأربعة عشر الشهيرة لنشر الديمقراطية وإرساء حق تقرير المصير لجميع شعوب العالم... وكان هذا الرئيس الأميركي قد «فلسف» إعلانه الحرب على ألمانيا من أجل جعل العالم مكاناً «آمناً للديمقراطية»!

ومرت عقود وعقود... البلدان المستعدة، ذاتياً، للديمقراطية سارت في طريقها... أما غير المهيأة لها فسارت في طريق آخر!

فالديمقراطية، ببساطة، كالنبتة التي تحتاج إلى تربة مناسبة لنموها، فإن وجدتها نمت وازدهرت... وإن لم تجدها ذبلت وانهارت.

الديمقراطية تتطلب مجتمعاً متعلماً بوعي سياسي ناضج، وطبقة متوسطة قادرة على الخروج من بوتقة التكوينات التقليدية المضادة للديمقراطية كالطائفة والقبيلة والمحلية... إلخ، ومجتمعاً مدنياً وصل إلى درجة من التمكن السياسي ما يجعله يستطيع الوصول إلى البرلمان بكتلة وطنية مستقلة أو أكثر فلا ديمقراطية بلا ديمقراطيين... هذا بالإضافة إلى وجود قائد تاريخي يؤمن بالديمقراطية ويرعاها، ويستخدم سلطته لدعمها وتطويرها.

وتمثل البحرين، بين البلاد العربية، نموذجاً لمثل هذه الديمقراطية الذاتية. فقد بدأ المشروع الإصلاحي الديمقراطي فيها، والذي بادر إليه ملكها حمد بن عيسى آل خليفة، بعد مشاورات مع ألوان الطيف السياسي المختلفة واستفتاء شعبي عام أقر «ميثاق» الإصلاح، قبل أحداث سبتمبر 2001، وإلحاح إدارة بوش الابن في الولايات المتحدة على ضرورة تبني الديمقراطية، خصوصا في دول العالم الإسلامي، دون النظر في مدى استعدادها لذلك.

ولكن لو لم يمتلك مجتمع البحرين أصلاً، المقومات الذاتية لنشوء الديمقراطية بما في ذلك مبادرة القائد، لما أمكن مقاربتها. ويبقى أن مسار الديمقراطية، على المدى البعيد، طويل ومتعرج، والتجربة خير برهان.

وأياً كان فهذه الشروط والمتطلبات الأربعة مجتمعة ضرورية لنمو أي ديمقراطية في العالم:

(1) الوعي السياسي.

(2) الطبقة المتوسطة.

(3) المجتمع المدني.

(4) القائد التاريخي الديمقراطي.

أما في المجتمعات الأخرى، غير المهيأة ذاتياً للديمقراطية، فبالإمكان إعلان دستور «ديمقراطي»، والحديث المستمر عن الديمقراطية دون انقطاع، لكن القوى المجتمعية الفاعلة تبقى غير معنية تحديداً بالديمقراطية وتهمها اعتبارات أخرى في حياتها، ولا يهمها إن تم تطبيق الديمقراطية أو تأجيلها إلى ما لا نهاية... بل إنها تلمح إلى أنها لا تريد الديمقراطية... وغير مستعجلة عليها! ثم إن الديمقراطية تنمو نمواً متدرجاً وترسخ أعرافها وتقاليدها شيئاً فشيئاً كما يتضح من التجارب الديمقراطية التي مر بها العالم.

الديمقراطية، في بريطانيا مثلاً، لها من العمر ثمانية قرون. وقد مرت بمراحل تاريخية بدا في حينه، وكأنها تتعثر، وأن القوى التقليدية المحافظة لها اليد العليا.

ويمثل العنف المجتمعي خطراً كبيراً على النمو الديمقراطي، وقد لجأت فرنسا للثورة الدموية في البداية ضد «النظام القديم» وبقيت على هذا الحال من الاضطراب والتقلب لحوالي نصف قرن تقريباً، ثم اكتشفت قواها المجتمعية الفاعلة إن التطور السياسي يتطلب استقراراً وهدوءاً من أجل النمو الديمقراطي. وهكذا حدث التحول في فرنسا نحو الديمقراطية المتنامية.

ومن الأهمية بمكان تحقيق العدالة الاجتماعية والرخاء الاقتصادي في ظل الديمقراطية، من أجل أن تبقى وتنمو.

ويمكن اعتبار غياب ذلك من أهم الأسباب التي أدت إلى إطاحة النظام الدستوري الديمقراطي في مصر وسواها من البلاد العربية، وتكون رأي عام شعبي مضاد لذلك النظام. وقد حدث ذلك قبل تولي الجيش مقاليد الحكم عام 1952. ومن المقارنة بين كتابين مفصليين لطه حسين، قبل ثورة الجيش بسنوات، تتضح خيبة أمل كبير الليبراليين المصريين في ذلك النظام الذي تحمس له. ففي كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»- 1939، دعا طه حسين إلى نظام تربوي مستمد من القيم الليبرالية الأوروبية. لكنه عاد عام 1945 في كتابه «المعذبون في الأرض» الذي صادرته في حينه الحكومة المصرية القائمة إلى التنديد بالنظام الاجتماعي والإقطاعي الجائر الذي أدى إلى حرمان أغلبية المصريين من أهم متطلبات الحياة. وهكذا أحاط المد الاجتماعي الريفي الكاسح بالبؤر الليبرالية في المدن ممهداً الطريق لثورة الجيش، بخلاف ما كانت تتمناه القوى الديمقراطية المصرية التي أمكن حصارها وعزلها. وتنطبق هذه التجربة عموماً على بقية البلدان العربية ذات الثقل في ذلك الوقت. (كما لا يمكن استبعاد نكبة فلسطين 1948 في الدفع بهذا الاتجاه، حيث كرَّت سبحة الانقلابات في سورية منذ 1949).

وثمة اعتبار آخر للديمقراطية، وهو أن اللاعبين كافة في ساحتها عليهم القبول بأصول اللعبة. وإذا شاركت فيها قوى ذات أجندة معاكسة، كالحزب النازي في ألمانيا مثلاً، فإنها تستطيع الوصول بأغلبية كاسحة إلى البرلمان، لإقامة نظامها الدكتاتوري. وذلك ما يتخوف منه الليبراليون العرب، إذا دخلت الساحة قوى متطرفة يميناً أو يساراً.

هكذا فالنمو الديمقراطي عملية دقيقة في غاية الحساسية ولابد من مراعاة تلك الاعتبارات كافة من أجل الحفاظ عليه. والأهم مدى الاستعداد الذاتي، والنضج المجتمعي الكافي واللازم لذلك.

* مفكر من البحرين