البنية التحتية للفكر العنيف

نشر في 01-06-2009
آخر تحديث 01-06-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري عجباً لدعاة إسلاميين ينعمون بالعيش في مجتمعات غربية آوتهم بعد تشرد، وآمنتهم بعد خوف، وأطعمتهم بعد جوع، كيف تنكروا لها؟! فروا من ديارهم فمنحتهم أوروبا اللجوء والمأوى، ووفرت لهم كل وسائل المعيشة الكريمة التي لم يكونوا يحلمون بها في أوطانهم الأصلية، وضمنت لهم الحرية الكاملة في نشر دينهم، ومكّنتهم من المساجد والمراكز والمدارس الدينية، لكنهم لم يكونوا أهلاً لهذه النعم، فجحدوها وعضوا يد الإحسان والمعروف، وأساؤوا واستغلوا الحريات والإمكانات المتاحة والعدالة وأصبحوا شوكة دامية في ظهر المجتمعات التي كرمتهم، ووظفوا المنابر لخطب الكراهية والتحريض وتسميم عقول شباب المسلمين.

من هؤلاء أبو حمزة المصري الذي يقبع في سجن بلمارش بتهم التحريض على الكراهية والقتل، وكأن إساءة الأب للمسلمين هناك لا تكفي حتى نقلت وكالات الأنباء أن محكمة بريطانية أصدرت حكماً بسجن ثلاثة من أنجال أبي حمزة لتورطهم في عمليات سرقة سيارات فاخرة، والمدهش أن الأخبار تقول إن الأنجال الثلاثة يحفظون القرآن عن ظهر قلب! وهذا يضاعف جرمهم.

وفي المشهد الألماني نجد تقرير وزير الداخلية الذي يحذر فيه من تغلغل المنظمات الدينية المتشددة مثل (مللي قوروش) التركية ومنظمة (الإخوان المسلمين) في المجتمع الألماني وتأثيرهما على الجيلين الثاني والثالث من المسلمين، وعلى الشباب الألماني الذين تحولوا إلى الإسلام، ووصف وزير الداخلية (الخطر الإسلامي) بأنه الخطر الأساسي الذي يهدد ألمانيا حالياً، وتقبض السلطات البلجيكية على 4 بلجيكيين من أصول عربية بعد عودتهم من وزيراستان، حيث قاتلوا مع طالبان. فإذا انتقلنا إلى الضفة الأخرى في الولايات المتحدة نجد القضاء الأميركي يتهم 4 أميركيين اعتنقوا الإسلام بالتخطيط لشن هجمات إرهابية على أهداف عسكرية وكنيس يهودي في نيويورك، وقد استطاع مخبر خدعهم فزودهم بصاروخ معطل ومتفجرات غير صالحة أن يكشفهم قبل القيام بجريمتهم.

وأما في الساحة الإسلامية فالمشاهد المأساوية كثيرة، في باكستان حرب التفجيرات الإرهابية مستمرة في مواقع مختلفة، وقد ذهب المئات من القتلى والجرحى ضحايا لها، وقد اضطرت الحكومة الباكستانية إلى رصد مكافآت للقبض على 21 من زعماء طالبان مطلوبين أحياء أو أمواتاً، أما في إيران فقد وقعت عملية انتحارية بمسجد بمدينة زاهدان قتلت 15 إيرانياً وجرحت 50 آخرين، وحملت الأنباء أخيراً نبأ القبض على 4 سعوديين كانوا يلبسون البرقع وهم يتسللون إلى باكستان بهدف الانضمام لحركة طالبان في قتالها ضد الحكومة الباكستانية. وتقول أسرة أحدهم بأسى إن الأم قالت لولدها لن أسامحك إذا ذهبت للجهاد، لكن العائلة لم تفلح في إقناع الشاب واستطاع الوصول إلى الحدود الباكستانية، ولم تعلم به إلا بعد 9 أشهر، وكان الشقيق يقول إن أخاه ظل يردد بأنه ذاهب للجهاد لأن هناك من ضمن له الجنة، وصرح الأمير نايف وزير الداخلية السعودي أخيراً بأن الأمن السعودي أجهض أكثر من 200 عملية إرهابية، أما المشهد الصومالي فأكثر دموية، إذ بلغت حصيلة القتلى والجرحى 255 شخصاً في الاشتباكات المسلحة بين قوات الحكومة وحركة الشباب المتطرفة.

بعد هذه المشاهد المأساوية الدامية التي يذهب ضحاياها مسلمون تحت فهم ضال للجهاد، دعونا ننتقل إلى مشهد آخر في جدة، حيث التقى وزراء الشؤون الإسلامية والأوقاف في مؤتمرهم الثامن، ودعوا إلى نبذ الخلافات المذهبية، وتجديد الفكر، وتحصين المجتمع، بما أسموه (الأمن الفكري) وهو مصطلح تم تداوله خلال السنوات الثلاث الماضية بعد العمليات الإرهابية التي استهدفت السعودية، وأكد الوزراء وسطية الإسلام واعتداله، ونادوا بالحوار والتقارب، واستنكروا الإرهاب والفكر المتطرف، وبرؤوا الإسلام من العمليات الإرهابية، لكنهم تغافلوا أهم عوامل ضعف (الأمن الفكري) وهو نمط تدريس (التعليم الديني) السائد الذي يقوم على علتين مزمنتين:

1- أحادية الرؤية الفقهية الناتجة من منطلق احتكار الصواب لمذهب أو طائفة مع التشكيك في معتقدات ورؤى الآخرين.

2- التلقين الفكري والتعبئة النفسية لحشد من الطروح والاجتهادات دون إفساح أي مجال للطلاب لإعمال الفكر النقدي وحق مساءلة ما لُقنوا وعُبئوا.

هذه المنظومة التعليمية هي التي تشكل (البنية التحتية) المعرفية التي تهيئ لقبول خطاب التشدد، وهي (الأرضية الخصبة) لاستزراع فكر التطرف وثقافة الكراهية والعمليات الانتحارية، كما تشكل الرابط الخفي بين المشاهد المأساوية الدامية شرقاً وغرباً.

لقد كانت الجماعة الجهادية بمصر على وعي عميق عندما قالت إن العملية الإرهابية التي وقعت بحي الحسين في أواخر فبراير الماضي إنما تعبر عن خلل عميق في فهم فريضة الجهاد، إن مناهج التعليم الديني مازالت تدرس مفاهيم مثل (الولاء والبراء) (التشبه بالكفار) (الجهاد) (الاستشهاد) (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (التكفير) (تطبيق الشريعة) وغيرها بطريقة ضبابية لا تواكب تحولات المجتمع ومتغيراته، ولا تناسب روح العصر وتحدياته، ولا تحصن الناشئة أمام غزو الفكر العنيف، هذا الفكر الذي هو إفراز لطريقة مشوهة في تدريس (المفاهيم الدينية) الصحيحة، وما لم نجرد هذا الفكر من مرتكزاته المفاهيمية المغلوطة ومبرراته الموهومة، ونعريه من ذرائعه الملتبسة بالصراعات السياسية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية، ونفكك ارتباطه بمقولة إنه رد فعل لاستفزازات وغلو الفكر العلماني والغزو الثقافي الغربي، فإنه سيزداد تغلغلاً ورسوخاً في البنية المجتمعية والمناهج التعليمية، ويختطف مزيداً من شبابنا إلى شباكه ومصائده المهلكة.

ولن ينفعنا لوم الآخر وتحميله مسؤولية أوضاعنا ولا الدعاء عليه بالهلاك واستسهال لعنه عقب الصلوات، بل علينا تحمل مسؤولياتنا لحماية مستقبل شبابنا، وتحصين مجتمعاتنا عبر دراسة تاريخنا بفكر نقدي وبيان سلبياته وإيجابياته، وكذلك مراجعة منابر التوجيه والتثقيف والتعليم ودراسة حضارة الغرب بفكر مفتوح بدلا من معاداتها، وعلينا إعلاء قيمة الحياة وقيمة الإنتاج وعمارة الأرض وتنمية المجتمع وتحبيب شبابنا في الحياة بدلاً من الترويج لفكر الموت والعدم، وترخيص قيمة الحياة والحلول الصدامية ضد أعداء الأمة الوهميين الخالدين، وعلينا قبول التغيير وتحمل استحقاقاته مصداقاً لقوله تعالى ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم))، وإذا لم نبادر لمعالجة أوضاعنا بأنفسنا فإننا سنخسر العالم، لأن العالم سيستمر في توجسه وخوفه منا ومن الإسلام، وسيستمر في كراهيته ورفضه لنا، وحينذاك لن يساعدنا أحد ولن ينفعنا اللوم بعد فوات الأوان.

* كاتب قطري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top