«الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان»... عبارة يتبادل الأصدقاء كتابتها للتعبير عن علاقة الصداقة التي تقل وتزداد بين فترة وأخرى، تبعاً لمشكلات الحياة ومشاغلها التي تبعد الصديقين أحيانا لبعض الوقت أو بعد المسافة، ولكن اليوم أتحدث عن ذكرى من نوع آخر، ذكرى تجمع بين الرحيل والبقاء، بين الفراق واللقاء، ذكرى يطلق عليها في مصر «الميعاد»، وهي ذكرى الوفاة أو الوقت «الميعاد» الذي رحل فيه الإنسان وعادة ما يجتمع الأهل والأقارب والأصدقاء لإحياء هذه الذكرى، ويبدؤون بالاستماع إلى القرآن الكريم، ثم الحديث عن ذكرياتهم مع المتوفى وشخصيته ومواقفه، وينتهي اللقاء «الميعاد» بالدعاء للمتوفى بالرحمة والمغفرة وهي عادة-كي لا يختلط الأمر على البعض- اجتماعية وليست دينية.

Ad

منذ عشرين عاما توفي والدي رحمة الله عليه، وكلما عصفت بي الحياة واختبرتني بهمومها أجده أمامي بحكمته ودروسه يشدّ من أزري وينير لي الطريق وسط ظلام الأحداث، ومازالت لحظة وفاته ماثلة أمام عيني، تمر بكل تفاصيلها ودقائقها، وهو يرقد مبتسما في المستشفى، يجول بعينيه فيمن حوله في وهن وضعف ألزمه بهما المرض الذي فاجأه منذ أقل من شهرين، ولم يترك له سبيلا للخلاص، وفي لحظة صمت وهدوء في أقل من ثانية فاضت الروح إلى بارئها، وتوقف القلب وانتهت الحياة. عشرون عاما قد مضت/ والشوق يزداد والقلب في وجد/ يا من فهمت دروسه/ وفيض علمه بحر منه أستزد/ لو كانت لغيرك باقية/ فياليتها للحبيب (محمد) لم تزل.

قادتني الذكرى إلى التفكير في السؤال القديم المتجدد عن ماهية الموت؟ وهل يمكن تعريفه؟

إن الإجابة الدينية تقول إن الموت هو خروج الروح من الجسد وانفصالها عنه، فالإنسان مركب من عنصرين الروح والجسد، فإذا دخلت الروح في الجسد دبت فيه الحياة، وإذا خرجت منه مات، وإن الجسد أصله تراب، أما الروح فهي نفخة من ذات الله، وهذا الجسد «التراب» لم يصبح إنسانا إلا بهذه النفخة «الروح» فإذا انفصلت عنه عاد الجسد إلى أصله «التراب».

والإجابة العلمية تعرف الموت بتوقف القلب عن ضخ الدماء للجسم وفشل الدماغ والرئتين في القيام بوظائفهما، فهل هناك علاقة بين هذه الأعضاء الجسدية والروح؟ مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الأعضاء الجسدية أصلها تراب بينما الروح نفخة من ذات الله، أي أن هناك انفصالا في النشأة، ولكن هناك توافق في الأداء والوظيفة فما العلاقة بينهما؟

«ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا». (الإسراء-85). ومن أعجب ما يقال عن الموت «الموت سنة الحياة»، وهي عبارة شاذة غريبة، فكيف يكون الموت سنة الحياة؟ فالموت والحياة متضادان تماما كالعدل والظلم، أو النور والظلام، فكيف يكون أحدهما سنّة للآخر؟ فمن البديهي أن السنّة صفة من صفات الشيء أو زيادة فيه، فسنّة الصلاة -مثلا- صلاة من جنسها، ولكن زيادة فيها، وسنّة الحياة- الزواج- لأنه لازم لاستمرار الحياة، وحب المال أو السلطة كذلك من سنن الحياة لأنهما من مظاهر الحياة ويساعدان على استمرارها، أما أن الموت سنّة الحياة فعبارة مرفوضة وغير مفهومة، أم أن المقصود بالسنّة هنا تفسير الأصل، فبضدها تعرف الأشياء، أي أن المقصود أنه بالموت نعرف الحياة، أو بالموت نعشق الحياة، فهل هو كذلك؟