لرسام الكارتون الياباني «أكيرا توري ياما» قصّة مصوّرة أصدرها مسلسلة في كتب عدة تحت عنوان «دكتور سلامب»، وهي تعرض كثيراً من المفارقات المضحكة التي تحدث لمخترع اسمه «سينبي نوريماكي»- ومعنى اسمه باليابانية هو: كعكة الرز- أثناء تعامله مع اختراعه الجديد الذي يُعدّ أوّل نموذج بالغ الدقّة لإنسانة آلية بمواصفات طفلة في نحو الثانية عشرة من العمر.

Ad

في ساعة ميلاد هذا الاختراع... أي في خطوات بنائه الأولى، نشهد العجب العجاب من تصرّفات هذه الفتاة «الروبوت» حيال مبتكرها، فهي حتّى قبل أن يركب رأسها على عنقها، تستثمر خاصّية الكلام التي زوّدها بها، فتحتج فوراً على كون صدرها مسطّحاً!

وبعد أن ينتهي من تركيبها يلبسها أحد قمصانها، ويخلد للراحة مغمضاً عينيه متأملاً في عظيم ما صنع، لكنّها سرعان ما تفزعه بصرختها من خلفه، وهي تقفز ناحية النافذة: «إنني لا أستطيع الطيران»!

فيفهمها أنها ليس من المفترض أن تطير، لكنها تنشغل عن قوله برفع القميص عن بطنها متسائلة: «لماذا ليس لي سرة في بطني؟»، والأدهى أنها تحتج، بعد ذلك، على كونها مجردة من عضو التناسل!

ولا يكاد يزجرها ممتعضاً حتى تتأمله بدهشة: «دكتور... وجهك يبدو بشعاً، أتعتقد أنه كذلك أم أنّ نظري ضعيف؟)... فيضطر إلى فحص نظرها على اللوحة، فتخطئ في قراءة جميع الأحرف صغيرها وكبيرها، وعندئذ يصنع لها نظارة، فتشعر بالارتياح لأنها بعد وضعها على عينيها صارت ترى كل شيء بوضوح، حتّى إذا ما التفتت نحوه ورأت أنه بشع بالفعل لم تكترث للأمر إطلاقا، وكأن بشاعته لم تعد منكرة أو مدهشة، مادام قد أكرمها بالنظارة!

وفي النهاية ينهض الدكتور لارتداء سترته، فتسأله عمّا إذا كان يزمع «الخروج»، فيجيبها بأنها لا يمكن أن تظلّ لابسة قيمصه إلى الأبد، وأنّه لابدّ له من أن يشتري لها ثياباً لائقة بها.

وعندما يشتري لها الملابس بعد جهد فاشل في الاختيار، تبدو عند ارتدائها كأنها «ولد»، لكنه يقرر على كلّ حال أن يمضي بها إلى محل للحلويات، مضمراً أنه إذا لم يستطع أحد أن يلاحظ أنّها «روبوت»، فإن ذلك سيكون دليلاً قاطعاً على نجاح اختراعه.

في المحل تسأله البائعة عمّا إذا كانت هذه ابنته، فيحتج على ذلك بقوله إنّه غير متزوج لكنّها، مع ذلك، تميل على الطفلة وتسألها بلطف: «ما اسمك يا حلوة؟»، فتلتفت الطفلة إلى الدكتور متسائلة: «ما اسمي؟»!

يردّ الدكتور محرجاً: «أريل... اسمها أريل نوريماكي»، ومعنى اسمها هذا هو «كعكة رز صغيرة»، أي أنّه أراد التأكيد على أنها صورة مصغّرة مكافئة له اسماً وأصلاً!

وعندما تسألها البائعة عن عمرها، تجيب أريل: «أنا خارجة من المصنع للتو، إنني جديدة... بقراطيسي»!

تتعجّب البائعة، ثمّ لا تلبث أن تتساءل بفزع: «أنفك... إنّ أنفك بلا منخرين»!

عندئذ يخبط الدكتور رأسه بالطاولة، ويصرخ بأعلى صوته محتجاً بغضب ومحاولاً بيأس إيقاف سيل الأسئلة: «وماذا إذا كانت بلا منخرين؟ هكذا رسوم الكارتون، أتفهيمن؟ هذه رسوم كارتون»! إنّ «أكيرا توري ياما» فنان من طرف آسيا البعيد، ولا قبل له ببلايا «الشّرخ الأوسط»، ولا هدف له من تأليف ورسم هذه القصص إلاّ تسلية الناس فقط، غير آبه بتحميلها أيّ بعد سياسي أو أخلاقي، لكنني، مع ذلك، أجد أنّ حكايته تلك عن المخترع و«روبوته»، كأنها قد صيغت خصوصا من أجل وصف حال نظام «المنطقة الخضراء» في بغداد، في علاقته بمخترعته العظمى أميركا.

لكن إذا كانت احتجاجات «نوريماكي» في قصّة الكارتون تبدو باعثة على الضحك، فإنّ اعتراضات نظام «نوري ماكو» في واقع ديمقراطيتنا البهية، لا تبعث إلاّ على الغثيان.

فهذا النظام مسطح إلى حد الالتصاق بالأرض، لكنه يدعي البروز، وهو بلا منخرين، لكنه يدّعي القدرة على التنفس مثل الناس الطبيعيين، وهو غير قادر حتى على الزحف، لكنه يدّعي القدرة على الطيران، وهو بلا سرّة باعتباره مجرد دمية مصنوعة، ومع ذلك فإنه يستثمر القدر اليسير المتاح له للكلام ليصر بين انبطاحة وأخرى على تمسكه بالسيادة!

وأبلغ صورة عن هذه الادعاءات الجوفاء قد تبدّت من خلال المفاوضات الماراثونية التي صاحبت ما يسمى بالاتفاقية الأمنية، فالكل يدرك، بما في ذلك الإغماء، أن حبل حياة هذا النظام هو رهن بمشيئة مخترعه، فإن شاء جعله طوق نجاة، وإن شاء جعله مشنقة، والكل يعلم، بما في ذلك الجهل نفسه، أنه قد وقع سلفا على اتفاقية بقاء المحتل، من قبل القبل ومن بعد البعد، لأن وجوده أصلا مستمد من وجود مخترعه.

لكنّه، برغم ذلك، ظل لشهور عدة يثقب مسامع الشعب الطاعن في الجوع والرعب، بطنين اعتراضاته وتعديلاته على اتفاقية «طوق نجاته وحده» ليخلص في النهاية إلى نشوة الإنجاز العظيم الذي تمثل في تغيير اسم الأحبولة من «حجي عليوي» إلى «ملا عليوي»! حتى إذا انتهى إلى إقرارها من قبل مجلس الأوزار، ثم من قبل مجلس النوائب، راح يوزع، بعد خراب البصرة، وعلى منهج جهاده السري القديم، منشورات تحاول إقناع هذا الشعب المبتلى بأن اتفاقية تثبيت الاحتلال هي من أجل «استقلاله»، وأن انتشار أكثر من أربعمائة قاعدة عسكرية أميركية على أرضه، هي من أجل تحقيق «سيادته»!

في صفحات التسالي التي تنشرها الصحف، هناك في العادة، زاوية تضم صورتين تبدوان متشابهتين، والمطلوب من القارئ تحديد الفوارق بينهما.

ولو أننا وضعنا صورة تلك الحكاية الكارتونية إلى جانب صورة حكومة الخضراء «الكارتونية أيضا» لبدتا متشابهتين تماما، لكن القارئ اللماح لابد أن ينتبه إلى فرقين غائرين بينهما، الأول هو: أن بطلة الحكاية فتاة جميلة الوجه جدا، أما أبطال الواقع فهم جميعا «أشباه» قبيحون إلى أبعد حد، شكلاً ومضموناً، وهذا مما يمكن أن نسميه بالبلاء المضاف!

والفرق الثاني هو: أن مخترعهم لم يعترف حتى الآن بأنهم مجرد رسوم كارتونية!

* شاعر عراقي

تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية.