قلعة الجبل.. مدينة داخل حصن (2) حكاية قطعة اللحم التي دلت السلطان على موقع البناء.. والأهرام التي أصبحت حجارتها سورا للقلعة القلعة كانت سجناً دائماً... وسياسياً باستمرار... المماليك رموا خصومهم في الجب... والإنكليز بنوا زنازينها الشهيرة!

نشر في 16-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 16-09-2008 | 00:00
أنشئت «قلعة الجبل» لتكون مدينة عسكرية مصغرة، وعاصمة تحمي الدولة من الأخطار المحيطة بها. من هنا جاء موقعها على ربوة تشرف على «القاهرة» ـ التي كان صاحب القلعة يتوجس منها ـ شمالاً، فكأنها ترقبها في حذر، وتطل جنوباً على العاصمة العربية القديمة «الفسطاط» كأنها تحمي بها ظهرها. أما الشرق والغرب فمانعان طبيعيان مؤثران، هما ـ على الترتيب ـ جبل المقطم ونهر النيل.

ومن الواضح أن «صلاح الدين الأيوبي» لم تأخذه الحيرة طويلاً وهو يختار هذا الموقع، فـ«المقريزي» يذكر أنه «علق اللحم بالقاهرة فتغير لونه بعد يوم وليلة، فعلق لحم حيوان آخر في موضع القلعة فلم يتغير إلا بعد يومين وليلتين؛ فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك (ما يدل على أن المفاضلة إنما كانت بين موقعين لا ثالث لهما حصرت الأهداف المتوخاة من بناء القلعة دائرة الاختيار بينهما) وأقام على عمارتها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، فشرع فى بنائها، وبنى سور القاهرة الذي زاده في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وهدم الأهرام الصغار التى كانت بالجيزة تجاه مصر (مصر: أي الفسطاط) وكانت كثيرة العدد، ونقل ما وجد بها من الحجارة وبنى به السور والقلعة وقناطر الجيزة، وقصد أن يجعل السور يحيط بالقاهرة والقلعة ومصر. فمات السلطان قبل أن يتم الغرض من السور والقلعة». وقيل إن «قراقوش» كان يستعمل في بناء القلعة والسور خمسين ألفاً من أسرى الصليبيين.

بناة القلعة

القلعة ـ كما بدأ بناءها صلاح الدين وأتمها الكامل ـ بناء مستطيل الشكل، تمتد أسوارها وأبراجها 1700 متر، حيث تبلغ المساحة المسورة 32 فداناً. ويلاحظ «كريزويل» أثر تعدد وظائف القلعة على تخطيطها، إذ ينقل في كتابه«وصف قلعة الجبل» ما ذكره «كازانوفا» فى كتابه «القلعة» قائلاً: «إن أول ما يلفت النظر في تصميم قلعة الجبل هو تقسيمها إلى سورين مختلفين تماماً. فالشمالي منهما يكون مستطيلاً غير منتظم الشكل يبلغ طول ضلعه من الشرق إلى الغرب 650 متراً تقريباً، ومن الشمال إلى الجنوب 317 متراً، ويتصل بالآخر برقية تبلغ 150 متراً، ويفصل بين الجزءين حائط سميك جداً ينتهي عند كل طرف من طرفيه بأبراج ذات أقطار كبيرة، وفي وسط هذا الحائط باب يسمى باب القلة يحميه برجان تخطيطهما متعدد الأضلاع. وإلى الجنوب من هذا الخط الفاصل توجد مساحة شاسعة غير منتظمة الشكل يتضح حتى للعين غير المدربة أنها ترجع إلى عدة عصور. وهذه المساحة أقل قليلاً من السابقة، ويبلغ أقصى أبعادها 510م تقريباً من الشمال إلى الجنوب و270 متراً من الشرق إلى الغرب، وهو بخلاف السور الشمالي الذي يدعمه عدة أبراج مربعة وأبراج نصف دائرية، في حين أن الجنوبي يتكون في الغالبية العظمى من حوائط غير منتظمة يقسمها غالباً أبراج..... وعلى هذا فإن هذا الوضع الشاذ توضحه تماماً مقارنة النصوص المختلفة. فهناك قلعة في جانب، وقصور في الجانب الآخر، فهي مدينة ملكية صغيرة شيدت في حماية الحصن».

وإضافة إلى ما قاله «كازانوفا» فإن معظم السور الشمالي ينتمي إلى «صلاح الدين الأيوبي» وشقيقه «العادل»، بينما السور الجنوبي ـ عدا ثلاثة أبراج ـ ينسب إلى «محمد علي»، فلا عجب إذاً أن تسمى القلعة تارة باسم «صلاح الدين»، وتارة باسم «محمد علي».

ومع أن منشآت «صلاح الدين» تضمن له مكانة متميزة في لائحة بناة القاهرة، فإنه لم يتح له الوقت الكافي ليتم بناء قلعته، ولا ليتخذها مقراً، فمن 24 عاماً قضاها في الحكم، لم يستقر في القاهرة إلا 8 أعوام فقط، والباقي قضاه في الشام مجاهداً، لهذا فإن بناء القلعة لم يكتمل إلا في العام 604هـ على يد «الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب» وهو ابن أخي «صلاح الدين» والخامس من سلاطين الدولة الأيوبية. ما يعني أن خلفاء صلاح الدين تراخوا في استكمال القلعة التي كان مؤسس دولتهم يسابق الزمن لبنائها، ولا عجب، فقد كان متعجلاً يريد التحصن بها من الصليببين والفاطميين ودولة آل زنكي، وبفضل إنجازاته أمن خلفاؤه شر الفاطميين وآل زنكي تماماً، وقل خطر الصليبيين؛ فلم يعد للعجلة موضع. وبعد الفراغ من بناء القلعة، انتقل «الملك الكامل» من «دار الوزارة» التي كان يقيم فيها شأن من سبقه من السلاطين، ليقيم هو وأولاده في القلعة، كما نقل أولاد «العاضد» ـ آخر خلفاء الدولة الفاطمية ـ وأتباعهم ليسجنوا فيها، كأنه أراد لهم أن يكونوا (تحت عينه) بالمعنى الحرفي، أراد أن يكونوا أمام قاعة حكمه وإلى جوار حجرة نومه وعلى مرمى حجر من ساحة تريضه، وذلك قبل أن ينقلوا إلى سجن آخر في العام 671هـ.

الدور السلطانية

على أية حال فإنه ومنذ العام 1208م ـ في سلطنة الملك الكامل ـ حتى انتقال «الخديو إسماعيل» إلى قصر عابدين في 1872م، ظلت «قلعة الجبل» مقر حكم مصر على اختلاف الدول، سكنها سلاطين وملوك، كما سكنها ولاة الدولة العثمانية الخاضعون تماماً للسلطان، وأقام فيها «محمد علي» الذي حمل مثلهم لقب والٍ لكنه تمتع باستقلال ذاتي، وصولاً إلى حفيده «إسماعيل» آخر الولاة وأول من حمل لقب «خديو» الذي يعني «نائب الملك». قرون مرت، وحكام حرص أكثرهم على ترك بصمته طوال 664 عاماً كانت فيها القلعة «عاصمة مصغرة» فيها مرافق الدولة، وفيها أيضاً ما يلزم لحياة السلطان وجنوده وأعوانه.

يقول المقريزي «كان بها طباق المماليك السلطانية، ودار الوزارة ـ وتعرف بقاعة الصاحب ـ وبها قاعة الإنشاء وديوان الجيش وبيت المال وخزانة الخاص، وبها الدور السلطانية من الطشتخاناه (دار الأواني) والركابخاناه (دار أسرجة الخيل وما إليها) والحوائجخاناه، والزردخاناه (دار السلاح). وكان فيها الجب الشنيع لسجن الأمراء، وبها دار النيابة، وبها عدة أبراج يحبس بها الأمراء والمماليك، وبها المساجد والحوانيت والأسواق».

متاحف وقصور

على مر العصور شهدت «القلعة» حركة بناء لا تهدأ، قصور تقام وأخرى تهدم لتبنى قصور جديدة مكانها، وهكذا، حركة متصلة جاء قرار «الخديو إسماعيل» بنقل مقر الحكم من القلعة إلى قصر عابدين ليوقف دورانها، كأنه وضع نقطة النهاية في ختام سطر طويل، فلم يبق للقلعة من فنون البناء إلا ترميم ما هو قائم من منشآتها، التي تحول قسم كبير منها إلى متاحف منها: «متحف مضبوطات الشرطة»، وفيه نماذج لما ضبطه رجال الشرطة من مسروقات وممنوعات. و«متحف الشرطة» الذي يستعرض تاريخ الشرطة عبر العصور. و«متحف سجن القلعة»، الذى يوثق تاريخ استخدام القلعة سجناً، وهو تاريخ يضرب بجذوره إلى ما قبل بناء القلعة نفسها، حيث أشرنا إلى أن «قبة الهواء»، التي تهدمت فبنيت القلعة مكانها، كانت تستخدم سجناً. وقد استخدم سلاطين العصرين الأيوبي والمملوكي وولاة العصر العثماني بعض دهاليز القلعة وأبراجها سجناً للمجرمين والمتمردين أيضاً، وعندما احتل الإنكليز مصر عام 1882م أقاموا الزنزانات الحالية الموجودة بسجن القلعة، والتي ظلت مستخدمة في القضايا السياسية حتى صدر قرار وزير الداخلية الأسبق «أحمد رشدي» في ثمانينيات القرن العشرين بإلغائها وتحويلها إلى متحف. و«متحف الحديقة الأثري ومحكى القلعة»، وفيه نماذج من آثار العصور التي مرت على القلعة، ومسرح كبير. وأخيراً «متحف قصر الجوهرة» ومقره القصر الذي بناه «محمد علي» في الجهة الجنوبية الغربية من القلعة، وقد بني على أنقاض قصور مملوكية قديمة ترجع إلى عصر الملك الأشرف قايتباي والسلطان الغوري، وكان القصر مقرا لحكم محمد علي باشا ولاستقبالاته الرسمية، بناه ضمن منظومة إنشاءاته في القلعة التي تضم: ثكنات الجند، ودواوين الحكم، ومصانع الذخيرة، ودار الصناعة، ومدارس للجيش، كما شيد سراي لنسائه (حرملك) وأخرى لحياته اليومية (هي مقر المتحف الحربي حاليا) بالإضافة إلى مسجده الشهير الذي أصبح علامة على القلعة، وسراي العدل، ودار المحفوظات التي تواصل مهمتها حتى اليوم، وفي دفاترها وخزائنها كل الأوراق الثبوتية الشخصية والعقارية للمصرين وأرض مصر من أقصاها إلى أقصاها. كما قام بتجديد دار الضرب (سك العملة).

شيد «قصر الجوهرة» في ثلاث سنوات من 1811 إلى 1814م، يطل المدخل الرئيسي على ميدان سراي العدل، وبه قاعات وغرف زينت جدرانها وأسقفها بنقوش وزخارف مذهبة من طراز «الروكوكو». وهي نقوش تختلف من قاعة إلى أخرى، وأهم هذه القاعات البهو الرئيسي (المجلس العالي) حيث كان محمد علي باشا يدير أمور الحكم. ثم قاعة العرش (الفرمانات)، وقاعة الألبستر، وقاعة الساعات وغير ذلك من القاعات بجانب الحمام الألبستر. إلى ما يحويه القصر من تحف وأثاث تمثل عصر الأسرة العلوية. وقد تعرض القصر لأكثر من حريق كان أخرها عام 1972م، واحتاج ترميمه إلى جهد كبير ليعود كما كان وتفتح أبوابه للزوار.

ويبقى من معالم القلعة الرئيسية «بئر يوسف» التي حفرها «قراقوش» حتى يشرب منها سكان القلعة لو حوصروا فيها، وهي من العجائب، إذ إنها محفورة في الصخر على عمق 90 متراً، وتتركب من طابقين لكل منهما ساقية لرفع الماء تدور بواسطة الدواب.

back to top