أوهام البدايات الجديدة
في نهاية العام، هناك شيء ما من كل شيء، للقيام به مرة أخيرة... رغبة دفينة بإغلاق صفحات عبثت بها الكلمات واللحظات، وأن نعيش حلم بداية جديدة، تغادر البدايات والنهايات الراحلة... لا شيء ينتهي حقا، باستثناء الروزنامات الورقية. وحدها تحظى ببداية حقيقية لا نلبث أن نملأ فراغاتها بما قبلها... مواعيد مؤجلة من العام المنصرم، أحداث لما تنتهِ بعد، وكلمات لم ننجز قولها رغم تكرارها ملايين المرات.مع ذلك، نرغب في أن نعيش وهم البداية الجديدة، بغير ذلك، ربما نرتبك في التعاطي مع ما سيمضي قريبا، وفقا للتواريخ والروزنامات على الأقل؛ يثقل حمل ذواتنا وخطايانا وإحباطاتنا عبر العام الموشك على الرحيل... يصعب تقبل خيبات الأمل كلها، بابتسامة وزينة وحفل صاخب؛ تلح اللحظات المعتمة حتى تكاد تأخذ الضوء كله.
نعيش الوهم الجميل، ونحن نعي ما نحمل معنا إلى العام الجديد، أي كل ما هو رث وقديم ومضجر ومكرر، وكل ما نتمنى أن يكون قد انتهى قبل أن يبدأ حتى، وكل ما هو بائس ومؤلم وباهت. كل ما هو شخصي وعام، حيث تختفي الحدود الفاصلة. من القديم هذا مفرداتنا التي استنفذنا تنويعاتها أشهرا طويلة في قول ما نرغب أن نقول. ولأجل إكمال وهم البداية الجديدة، كان يجب أن أكتب مقال نهاية العام، خاليا من تلك المفردات... انقطاع ضروري من أجل استمرارية لا بد منها، لا سجون ومعتقلات، لا حقوق إنسان وحريات وتعذيب ومنفى... كان علي أن أتجاوز الكثير من الأفكار التي تلح على قلمي... الرتابة تتآكل نهاية العام، والسجال الذي لما ينتهِ بعد حول حذاء الزيدي يضج في رأسي صاخبا ومضجرا، بينما في أماكن أخرى، مفردات مختلفة ولحظات مختلفة، أو هكذا تبدو. زينة أعياد الميلاد ورأس السنة في أحياء باب توما والقصاع تبعث في ليل دمشق البارد دفئا جميلا... أصدقاء كعادتهم في مثل هذه المناسبات، يحاولون التلصص على تفاصيلنا الحميمة، عبر الدردشة الإلكترونية... كيف هو البرد هذه الأيام، وما لون المطر يسألون، نقول إنه برد ينهش العظام، والسماء لا تمطر إلا نادرا وفي غفلة منا... تشتد غربتهم في أوقات كهذه... منفاهم يوجعهم، ويحرقهم الحنين. يطرحون أفكارا غريبة، حول تفكيرهم بالعودة إلى الوطن حتى لو إلى السجن. يتحدثون مطولا عن التعب، وحين تمر الشام من بين كلماتهم، تجدها أصبحت رقيقة كبيت شعر... يتحدثون عن رائحة النسمة، عن الشوارع القديمة والأم التي تنتظر... يقولون إنهم يحسدوننا، لأنه سيتسنى لنا أن نودع عاما ونبدأ من جديد، في المكان الذي نحب ومع من نحب... ونقول لهم ما أكذبكم، ونحن نوقن أنهم صادقون حتى آخر ذرة حسد. نحن نتحدث بأشياء غريبة أيضا... ننصحهم بالتوقف عن الجنون... نستغرب رقتهم المراهقة، وكلماتهم الحالمة، ننصحهم بالإقلال من قراءة الشعر والإكثار من قراءة الأخبار والتقارير، نحاول زعزعة حنينهم، نقول لهم لا النسمة بقيت نسمة ولا الشوارع القديمة تتذكر أيا منهم، نتحدث بأسف عن المدينة التي كنا نعرف ونحب، نتفلسف حول أمور كالوطن في القلب وسواها، نواسي غربتهم بغربتنا، نؤكد أننا أضعنا الشيء الوحيد الذي مازالوا يمتلكونه، نقول إننا نحسدهم، على الأقل، يمتلكون أن يبدؤوا من جديد وقت يريدون، غير محكومين بالضجر، لا أبواب مغلقة أمامهم، باستثناء واحد على أي حال! ولماذا يصرون على مطاردة الوطن وآخرون لا يجدون مهربا من مطاردته لهم! وهم يعرفون أننا نكذب، كذب لا يخلو من بعض الصدق. لا هم سيعودون حقا، ولا نحن نجرؤ على المغادرة. الكل اعتاد على منفاه وهام به، وسنلتقي العام القادم عبر الدردشة الإلكترونية. نكون وقتها قد بدأنا ما نوهم أنفسنا أنها بداية جديدة، متناسين أحاديث الهناك والهُنا، وشيئا لم يتغير بعد. نخطئ في كتابة تاريخ العام الجديد لفترة قبل أن نعتاد عليه، طبيعي جدا، إذ إننا لانزال نكتب مفرداتنا ذاتها، وعلى الصفحات نفسها، والغربة هي هي والمنفى هو هو في الاتجاهين، وتكون حينذاك زينة الميلاد قد رفعت، وعاد الليل باردا بعد أن أيقنا وهم دفئه. * كاتبة سورية