يمارس ساركوزي قفزاته الجندبية على حافة دائرة الصراع المحتدم في لبنان منذ اغتيال رفيق الحريري في عام 2005، فمرة نراه، على خلاف ما كان قائماً من جاك شيراك، ينحاز إلى قوى «الرابع عشر من أذار» حتى يظن أي مراقب بأنه لا عودة عن هذا الموقف، ومرة أخرى يقفز إلى الاتجاه المعاكس ويصل غزله بسورية وسياساتها ومواقفها حتى تجاه لبنان إلى حد الوله بها.عندما يتحدث الفرنسيون، وفقا لما نقل عنهم، أن سورية أصدرت إشارات باحتمال فك ارتباطها مع إيران، فإنهم يثبتون أنهم لا يعرفون شيئاً عن هذه المنطقة من الشرق الأوسط الكبير، فمثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر إلا عن دولة لم تشارك ذات يوم في اتفاقيات «سايكس-بيكو» التي وضعت حتى التفاصيل الدقيقة لتوزيع تركة الرجل المريض «تركيا» بعد وفاته. وكان لفرنسا وصاية -لعشرات الأعوام- على بعض أجزاء هذه التركة التي تحولت إلى دول وكيانات بجرة قلمي وزيري خارجية فرنسا وبريطانيا في اجتماعهما المشؤوم في أحد فنادق لندن عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى.
ربما أن لفرنسا باعاً طويلاً في معرفة شؤون وشجون وسياسات دول شمالي إفريقيا العربية، والأسباب هنا كثيرة بحكم استعمارها الدول فترات طويلة وبصورة مباشرة وصلت في بعض الحالات إلى حدود الإلحاق والاحتلال الاستيطاني.
أما بالنسبة الى شرقي البحر الأبيض المتوسط فقد ثبت، ليس مرة واحدة بل مراراً، أن الفرنسيين يعرفون عن فيتنام وتايلند ربما أكثر من معرفتهم حتى بلبنان الذي ساد انطباع لايزال يسود لدى بعض الأوساط بأنه لا يعطس ولا يتنفس إلا بمعرفة ومباركة «الأم الرؤوم».
لقد غابت فرنسا غياباً كاملاً عن هذه المنطقة، وعملياً عن لبنان، منذ أن شاركت في تلك الهزيمة النكراء التي لحقت بأطراف العدوان الثلاثي، إسرائيل ومعها بريطانيا الذي استهدف مصر- عبدالناصر في عام 1956. والمعروف أن هذه الهزيمة كانت آخر محطات أفول نجم الاستعمار القديم، الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي، في مناطق شرقي المتوسط، وأن الوريث الذي لايزال وارثاً للمستعمرة حتى الآن هو الولايات المتحدة الأميركية.
تلك هي الحقيقة... وقد جسدها نيكولاي ساركوزي في قفزاته الجندبية على حافة دائرة الصراع المحتدم في لبنان منذ اغتيال رفيق الحريري في عام 2005. فمرة نراه، على خلاف ما كان قائماً من جاك شيراك، ينحاز إلى قوى «الرابع عشر من أذار» حتى يظن أي مراقب بأنه لا عودة عن هذا الموقف، ومرة أخرى يقفز إلى الاتجاه المعاكس ويصل غزله بسورية وسياساتها ومواقفها حتى تجاه لبنان إلى حد الوله وإلى حد إرسال بعض كبار مستشاريه ومعاونيه بباقات الورود إلى دمشق التي لا شك في أن «الساركوزيين» هم الذين حبكوا حكاية أنها أصدرت إشارات باحتمال فك تحالفها مع إيران، وأنهم هم الذين قاموا بتسويتها «وتمريرها» على بعض الصحف العربية.
وهكذا لو ان الفرنسيين، الذين يعتبرون أنفسهم الأقرب إلى هذا الشرق وروحه وتاريخه وسياساته وتداخلاته المذهبية والطائفية من بقية الأوروبيين، يعرفون هذه المنطقة معرفة صاحب المصالح للمجال الحيوي لمصالحه، لما لجأوا إلى هذه السياسات «الجندبية» وإلى تلك المواقف المتأرجحة بين اتجاه وآخر ، فمرّة مع دمشق و«حزب الله» و«حماس»، ومرة أخرى تعتبر أن هؤلاء ومعهم إيران يشكلون حلفاً إرهابياً لا يجوز الاقتراب منه ولا يجوز التعامل معه إلا بالقوة.
ولعلم مَن سربوا معلومات بشأن صدور إشارات سورية باحتمالات فك تحالفها مع إيران وتمرير هذه المعلومات على بعض الصحف العربية، حتى بما في ذلك الصحف الوقورة، فإن ما بين دمشق وطهران لا يتوقف لا على الجوانب السياسية فقط ولا على المصالح الدنيوية المشتركة... إذ إن هناك أموراً أهم من ذلك كله، وانه منذ انتصار الثورة الخمينية غدا هناك عامل يتحكم في التوجهات الاستراتيجية لهاتين الدولتين لا يعرفه الا الذين يعرفون ما هي «التقية» وما هي محطات التقارب والتباعد بين المذاهب الشيعية وأهمها المذهب الجعفري الاثنى عشري وماذا تعني «ولاية الفقيه».
كل هذه العوامل الخمسة التي تحدث عنها المصدر الفرنسي الذي وُصف بأنه رفيع وواسع الاطلاع على الشؤون الخارجية، والتي قيل إن توافرها سيدفع دمشق إلى الابتعاد عن طهران، لا يمكن أن تقبل سورية لا بها ولا بعشرة أضعافها لتفك تحالفها مع إيران.. وخصوصاً.. وخصوصاً أن الأشقاء السوريين لديهم قناعة بأن هذا التحالف هو الآن في مواقع الهجوم وليس في مواقع الدفاع، وأنه يحقق إنجازات على الجبهات كلها التي يقاتل عليها الجبهة العراقية، والجبهة اللبنانية، والجبهة الفلسطينية!
* كاتب وسياسي أردني