ما لايراه الأميركيون حول القاعدة والإسلام الجهادي

نشر في 22-06-2008
آخر تحديث 22-06-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد لا تقل إنهم لا يفهمون الثقافة والسياسة في العالم العربي والإسلامي. فنحن الذين نعيش في هذا الجزء من العالم لا نفهم الكثير مما يجري في بلادنا. والنموذج الحي لهذا الجهل المشترك هو ظاهرة «تنظيم القاعدة».

في الولايات المتحدة تجري مناظرة بين تيارين: الأول يقول إن «القاعدة» فقدت قدرتها على تخطيط وتنفيذ الأعمال «الإرهابية» وإن التهديد انتقل من هذا التنظيم السري الحديدي إلى مئات من التنظيمات المستقلة في آلاف من الأحياء والمواقع على امتداد العالم الإسلامي وفي الغرب ذاته أيضا. وينتمي التيار الأول لنظرية التنظيم الكلاسيكية ويرى أنه من دون تنظيم كبير يسيطر على أعضائه في مختلف مواقعهم لا يمكن القيام بأعمال عسكرية أو إرهابية كبيرة أو مؤثرة. أما التيار الثاني فيستعين بنظرية الشبكة ويرى أن التهديد الذي يمثله تنظيم «القاعدة» انتهى إلى حد كبير سواء بسبب تجفيف المنابع وصعوبة الحركة واضمحلال التمويل والنزيف الذي سببته «الحرب ضد الإرهاب» التي تشنها أميركا وحلفاؤها في الدول العربية والإسلامية. ومن وجهة نظر هذا التيار التهديد الجديد لا يأتي من تنظيم مركزي بعد أن صارت «القاعدة» رمزا أكثر منها تنظيما أو قدرات مادية حقيقية بل من زمر صغيرة على مستوى الأحياء وأحيانا «الحارات» في عشرات من الأقطار. وربما ترتبط هذه المجموعات عبر تقنيات التشبيك سواء بالاتصال المباشر أو بالإنترنت. ولكن التخطيط والتنفيذ تباشره مجموعات صغيرة بعضها لا تزيد خبراته العنفوية عن عملية إرهابية واحدة أو اثنتين.

ظواهر مستجدة كثيرة

والواقع أن المناظرة الأميركية حول «القاعدة» وقعت في أخطاء كبيرة للغاية إلى حد التضليل الاستراتيجي المنظم. وكما تلاحظ ايلين سكولينو ومعها ايريك شميدت في جريدة النيويورك تايمز يوم الاثنين الماضي يخوض التياران الرئيسان في مجال «مناهضة الإرهاب» معركة مصالح كبيرة حول الميزانيات الضخمة حقا لما يسمى مكافحة الإرهاب طوال الأعوام السبعة الماضية منذ أحداث 11 سبتمبر.

والحقيقة أن المعركة التي تجرف الفهم لا تدور حول الميزانيات والأموال فحسب بل حول النفوذ والسلطة أيضا بين الوكالات الداخلية والهيئات الاستخباراتية والعسكرية التي تعمل في الخارج. ومن مصلحة الهيئات الداخلية تركيز تصور التهديد على الشبكات التي يمكن مكافحتها في الداخل الأميركي بينما تدفع الوكالات العسكرية والاستخباراتية الخارجية لتصور يضخم التهديد الماثل في تنظيم كبير في الأقطار الإسلامية.

بل إن المناظرة لها أيضا جذورها السياسية في مرحلة تبحث فيها أميركا عن الاتجاه السليم للمستقبل بعد بوش وبعد أن أرهقتها سياساته المغامرة. فهناك من يريد مواصلة طريق بوش وهو السيناتور ماكين وتتلخص مصلحته في تضخيم التهديد الخارجي خاصة في العراق. وهناك من يريد إحداث قطيعة مع عصر بوش والتركيز على الداخل الأميركي ويمثله أوباما. ومن هنا يصور هذا الاتجاه التهديد في صورة شبكات، وهو ما يقلل من أهمية المدخل العسكري، وقد يقوم بسحب القوات الأميركية الكبيرة في الخارج، فيوفر جانبا من التمويل الضخم للحروب لينفقها على التعليم والصحة والتقدم في الداخل.

وبوجه عام يبدو أن المعرفة الأصيلة بما يحدث أقل أهمية بكثير من خدمة المصالح المالية والسلطوية للباحثين ومراكز البحوث خصوصا داخل واشنطن وأجهزة الاستخبارات الخارجية والداخلية.

ولو أن الحقيقة هي ما يهم لكان من الممكن أن يلاحظ الباحثون عددا من الاتجاهات الجديدة في ظاهرة الاسلام السياسي بصورة عامة والجهادي بصورة خاصة، وفي قلبها المناظرة الفقهية متزايدة السخونة والجدية حول شرعية «الإرهاب».

وعندما نتحدث عن ظاهرة الاسلام السياسي فأول وربما أهم الظواهر الجديدة أن الجانب العسكري بل الجانب السياسي في الظاهرة صار اقل بروزا بالمقارنة بالجانب «الثقافي» أو الذي يتعلق باسلوب وطريقة ومظاهر الحياة. وبتعبير آخر فالحركة السلفية صارت في حالات كثيرة أقوى وأكثر نفوذا على العقل العام عن تنظيمات الاسلام السياسي التقليدية مثل الإخوان المسلمين.

ومن منظور معين تتفق هذه الظاهرة الجديدة مع المقارنة بين التنظيم والشبكة. فالحركة السلفية شبكة أكثر منها تنظيما خصوصا في بلد مثل مصر وما يميزها هو أنها أقل تسييسا وأقل رغبة بكثير في الصدام مع الدولة.

أما أبرز الظواهر الجديدة من الناحية السياسية فهي أن الجمهور التقليدي الذي كانت تعتمد عليه «القاعدة» انصرف عن الإرهاب في الخارج لصالح التحول إلى «حركة تحرر وطني» أو «حركات الخلاص الاجتماعي». بل إن ما بهر الجمهور الذي انتحل اسم «القاعدة» أو ارتبط بها بهذا التنظيم هو أنه يصلح لمحاربة الأميركيين والاسرائيليين في الحالات التي تبرز فيها قضية تحرر وطني وتحديدا افغانستان والعراق وفلسطين (شاملا الفلسطينيين في لبنان ومعسكرات اللاجئين في بعض الأقطار العربية الأخرى). ولجأ كثير من الشباب الذي أهانه الاحتلال الأميركي للعراق لمحاربته باسم «القاعدة» رغم أنه ليس بالضرورة متفقا مع أسلوبها أو فلسفتها السياسية، وبعضه لم يكن متواصلا معها ولا حتى متدينا أصلا.

وكان من واجب العلماء الحقيقيين في أميركا وغير أميركا أن ينبهوا للفارق الكبير بين ما حدث ويحدث في العراق وأفغانستان وفلسطين من ناحية، وما حدث في نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر أو في محطة القطارات في إسبانيا عام 2004 وفي محطة المترو في لندن يوليو 2005. ويتم تجاهل التفضيل المتعاظم للانخراط في عمليات باسم التحرر الوطني بالمقارنة بعمليات القتل العشوائي في عواصم ومدن أوروبية أو آسيوية. فالقصد في كل الحالات هو النفخ في مقولة الفاشية الإسلامية والتهديد الذي تمثله لـ«الحضارة الغربية»! لتبرير الحروب والميزانيات والعداء للعرب والمسلمين أيضا.

النضوج الفقهي

ويرتبط بذلك ظاهرة جديدة نسبيا وهي النضوج الفقهي لتنظيمات وشبكات الإسلام الجهادي، وهو ما ينأى بها بشكل متزايد عن العنف العشوائي. والواقع أن التفسير السليم لعدم وقوع عمليات إرهابية جديدة في أوروبا وأميركا ليس ضعف «القاعدة» بل بروز فتاوى وآراء فقهية وسياسية تلحظ ما تشتمل عليه هذه العمليات من عبث يضر سياسيا أكثر مما ينفع، فضلا عما يمثله من إساءة سمعة للإسلام كدين عظيم. والواقع أن هذا النضوج الفقهي يرتبط أولا بالانتقال الجيلي، حيث وصلت قيادات فقهية وسياسية وعسكرية خاضت تجربة الإسلام السياسي إلى أعمار تسمح لها بالتوصل لأحكام وتفسيرات أكثر توازنا وعقلانية. كما يرتبط هذا النضوج الفقهي بالخبرات السياسية التي تكشف عن مدى الخسارة الناجمة عن التطرف والإرهاب بالمقارنة بالعمل السياسي والعسكري المنظم عند الضرورة.

ويهمنا أيضا أن نشير لاتجاه جديد نسبيا لتنظيمات وشبكات الشباب المتحمس للتفسيرات الجذرية للإسلام وهي العودة للاهتمام بالبيوت الداخلية استجابة لتعاظم حدة الصراع الداخلي في عدد من الأقطار العربية والإسلامية. وتوجت بعض هذه الحركات هذا الاهتمام بانتصارات انتخابية جزئية وهو ما صرفها عن مباشرة العنف على مستوى دولي.

وبإيجاز فإن الظواهر الجديدة في حركة الإسلام الجهادي لا يمكن اختصارها في مناظرة حول التنظيم الهرمي والشبكات أو ما يمثله كل منهما من تهديد موجه للغرب.

فالحقيقة التي يخفيها الباحثون والساسة الغربيون عن شعوبهم هي أن الأغلبية الساحقة من الإسلاميين لا يريدون تدمير الغرب ولا أميركا إنما وقف العدوان الغربي والأميركي على بلادهم وتحريرها من الاستعمار الصهيوني والامبريالي.

وقد تتنكب هذه الحركات الطريق السليم للتحرر، ولكنها مثل كل الظواهر الأخرى في المجتمعات العربية والإسلامية مفتوحة على التعلم والاجتهاد حتى عندما تبدو وكأنها أغلقته.

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

back to top