شروخ خليجية

نشر في 24-05-2009 | 00:00
آخر تحديث 24-05-2009 | 00:00
 ياسر عبد العزيز ما حدث بين السعودية والإمارات من خلاف على خلفية تنافسهما على استضافة مقر البنك المركزي الخليجي ليس أسوأ ما وقع بين البلدين من تجاذبات، بل هو حلقة ضمن مسلسل من تناقض المصالح بدأ منذ اللحظة الأولى لإعلان دولة الإمارات العربية المتحدة العام 1971.

ولقد استطاع البلدان دائماً إيجاد السبل لاحتواء كل خلاف طرأ على العلاقات الثنائية بينهما أو ضمن مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي كان وجوده واستمراره تعبيراً عن إرادة سياسية خليجية جمعية أسهم فيها البلدان.

وعلى عكس ما يروج البعض، فإن مجلس التعاون لدول الخليج العربية ليس سلسلة من الإنجازات التي لا تعرف إخفاقاً، لكنه أيضاً لم يكن يوماً خالياً من النفع أو عاجزاً عن بلورة حد أدنى من مصالح الدول المنضوية تحت مظلته وتحقيق التوافق إزاءها.

لكن انسحاب الإمارات الأسبوع الماضي من مشروع الوحدة النقدية الخليجية يشكل ضربة قوية لمستقبل المجلس، الذي باتت إنجازاته غير السياسية محل شك، كما أصبح اليقين مزعزعاً في قدرته على حسم توازنات القوى وإدارة الخلافات المتكررة داخله عبر التوافق السياسي مهما بدت مصالح الأقطار المنضوية ضمنه متناقضة.

في مطلع العقد الراهن، كان المجلس، الذي تأسس في العام 1981 في أجواء حرب إقليمية طاحنة، يزهو بإنجازات عديدة، ويبدو المستقبل أمامه منفتحاً وزاهراً؛ فقد كانت الشعوب الخليجية تثق كثيراً بقدرته على إدارة الأزمات السياسية الإقليمية، خصوصاً بعد تحرير الكويت، كما كانت تنتظر تفعيل الاتحاد الجمركي، وانطلاق الاتحاد النقدي، وتدشين السوق المشتركة، وإطلاق العملة الموحدة، وإنشاء السكك الحديدية التي تربط الدول الست.

وكانت تلك الشعوب تأمل في إدارة جماعية لموضوع عقد إتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة والتكتلات الدولية الأخرى، بما يحقق أكبر مصلحة ممكنة للجانب الخليجي، الذي كان من المنتظر أن يخوض المفاوضات مع شركائه الآخرين باعتباره كياناً واحداً ضخماً بما يعظم مكاسبه.

وانتظر الخليجيون إصدار بطاقة الهوية الموحدة، وتحقيق الربط المائي، ومد الحماية التأمينية لمواطني دول المجلس العاملين خارج دولهم في أي من الدول الأعضاء، فضلاً عن الكثير من الإنجازات ذات الطابع البيئي والصحي والزراعي والتعليمي والاجتماعي والتجاري التي تنظم التعاون في تلك المجالات وتطورها.

انتظم المجلس في عقد قمتيه الدورية والتشاورية سنوياً، واستمرت اللجان المشكلة في بحث القضايا المطروحة ودرسها بقدر كبير من الاهتمام والفاعلية، وأثبت المجلس قدرته الكبيرة على ضبط إيقاع السياسة الخليجية، وحصر الخلافات والتباينات إزاء القضايا الإقليمية والدولية إلى درجة كبيرة، لكنه لم يحقق أهدافه المعلنة كلها بالفاعلية المناسبة.

بالنظر إلى درجة التجانس الاجتماعي والسياسي والديمغرافي الكبيرة التي تجمع دول المجلس، والتحديات الخطيرة التي تواجهها، والطبيعة الجغرافية والجيوستراتيجية للمنطقة، فقد كان واجباً أن تمضي مسيرة المجلس بوتيرة أسرع وأن ترشح عنها خلافات أقل.

بدأت المشكلات الإماراتية-السعودية منذ أجلت الأخيرة اعترافها بالأولى إلى حين تسوية خلافات حدودية بين الرياض وأبوظبي. وقد سويت تلك الخلافات مرحلياً باتفاقية جدة التي تم توقعيها بين الجانبين في العام 1974.

لكن الإمارات رأت في العام 2005 أن أجزاء من تلك الاتفاقية باتت غير صالحة للتنفيذ، خصوصاً حينما شعرت بعرقلة خطواتها لمد أنابيب الغاز إلى قطر أو إنشاء جسر يربطها بها أو استغلال موارد بترولية في محيط خور العيديد الذي كان أحد محاور الخلاف التي سعت إتفاقية جدة لتسويتها.

لم يحل الخلاف الحدودي بين البلدين بشكل نهائي بعد، وزادت خلافات جديدة عليه تتعلق من تحسس الرياض مما اعتبرته «انفتاحاً أكبر من اللازم في الإمارات، وقلقها من تدفق أموال سعودية ضخمة على دبي تحديداً»، في مقابل عدم ارتياح إماراتي لمواصلة الرياض «لعب دور الشقيق الأكبر، الذي ربما لم يهتم بتقدير التقدم الذي حققه أشقاؤه الأصغر».

رأت الإمارات أنها الأحق باستضافة مقر البنك المركزي الخليجي، لأنها لا تستضيف أياً من الأجهزة الخليجية العشرين، التي تتوزع على دول المجلس الخمس الأخرى، في أراضيها، ولأنها أول من طالب باستضافة المقر ولمدة عامين من دون أن يتقدم أي منافس بطلب مماثل، ولأنها حققت تقدماً مالياً واقتصادياً إقليمياً وعالمياً مشهوداً له، حتى صارت ذات سمعة دولية براقة، ولأنها تملك صندوقاً سيادياً هو الأضخم في العالم، وتتمتع باقتصاد وطني قوي ومرن، تسنده احتياطيات نفطية وفيرة، ويشكل ما يزيد على ربع إجمالي الاقتصاد الخليجي.

أما السعودية، فتجد أنها الأجدر باستضافة المقر، ليس فقط لكونها كبرى الدول الخليجية، وواحدة من أهم الدول العربية، وصاحبة المكانة العالمية والروحية الخاصة، ولكن أيضاً لأنها صاحبة أقوى اقتصاد في المنطقة، ولكونه يشكل وحده نحو 60% من إجمالي الاقتصادات الخليجية، ولأنها عرابة الاتحاد النقدي الخليجي والساعية الأكبر نحو تحقيقه.

تأخذ الإمارات على شقيقاتها الخليجيات عدم الاعتداد بآلية اتخاذ القرار داخل المجلس، والتي تحتم الحصول على الإجماع عند اتخاذ قرار ما، وقد أعلنت تحفظها عن منح الرياض حق استضافة مقر البنك، ورغم ذلك فقد اتخذ القرار مفتئتاً على مبدأ الإجماع. وتأخذ السعودية وبعض دول الخليج على الإمارات أنها خلطت بين ما هو شكلي وتفصيلي وإجرائي، وبين ما هو استراتيجي، وأن انسحابها من الاتحاد النقدي يمكن أن يخلخل هذا الاتحاد ويهز الثقة به، وربما يعطله أو يحول دون وجوده، وهو أمر يتعلق بمستقبل إحدى أهم آليات المجلس والعمل الخليجي المشترك وربما مستقبل وجود المجلس ذاته.

على أي حال فإن ما قصدته الإمارات من تلك الخطوة ليس الانسحاب بحد ذاته، إنما أرادت استخدام سياسة «حافة الهاوية» في ما يتعلق بموقفها حيال استضافة البنك في أراضيها.

من استمع إلى تصريحات وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد الأسبوع الماضي يدرك أن بلاده لا تقصد الانسحاب من الاتحاد النقدي، لكنها تقصد الضغط على السعودية خصوصاً وبقية الشركاء للتراجع عن موقفهم ومنحها حق استضافة البنك، ويتعزز ذلك بتأكيد الشيخ عبدالله وغيره من المسؤولين الإماراتيين أن أبوظبي ستبقي دعمها الكبير للأنشطة والفعاليات الخليجية المختلفة، وستظل دافعة للعمل الخليجي المشترك في مناحيه المتعددة، وأنها ربما تعود إلى الاتحاد النقدي إذا تغيرت الظروف.

يعبر التنافس على استضافة مقر البنك بين السعودية والإمارات، وعدم قدرة البلدين على حسمه بالمفاوضات المباشرة الثنائية، ثم إخفاق دول المجلس في حل الإشكال حلاً توافقياً، وخروج الأمر برمته إلى الإعلام، وإعلان الإمارات انسحابها من الوحدة النقدية، ثم تأكيدها أن هذا الانسحاب ليس نهائياً بل يمكن الرجوع عنه في حال تغيرت الظروف، عن أن مجلس التعاون الخليجي فقد قدرته على إدارة الخلافات البينية داخله بالرشد والانضباط اللائقين.

ثمة شروخ تضرب هذا البناء الخليجي الذي عولت عليه المنطقة كثيراً لجهة تماسكه وفاعليته واستدامة أثره؛ فقد شهد العقد الجاري انسحاب عمان من الاتفاقية نفسها، وفكت الكويت ارتباط عملتها بالدولار على عكس ما كان يأمل المجلس ويتطلبه الاتحاد النقدي، ونشب الخلاف بين السعودية والبحرين على خلفية عقد تلك الأخيرة اتفاقية التجارة الحرة مع واشنطن منفردة، واشتعلت خلافات عديدة بين السعودية وقطر والسعودية والإمارات من جراء مشكلات حدودية وتنافس على الأدوار.

يحتاج البناء الخليجي المتمثل في مجلس التعاون الكثير من العمل وتغليب المصلحة الجماعية على المصالح القطرية الضيقة لتعزيز اليقين في قدرته على تجاوز العثرات وتحقيق الإنجازات التي تستحقها شعوب الخليج وتأمل في الحصول عليها.

* كاتب مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top