جرح غزة ساخنٌ الآن، وبوسع غزة اليوم استثارة الغضب العربي والإسلامي ضدّ الإجرام الصهيوني، لكنّ غزة تُسأل أيضاً عن خيارها السياسي، فلا هي تختصر قضية فلسطين، ولا بوسعها اختزال نضال عشرات السنين بسلطة أمرٍ واقع رأت أنّ طريق القدس تمرّ عبر طرد الشرعية من القطاع.

Ad

ليس مشهد المجزرة في غزة من النوع الذي يتيح مجالاً للجدل السياسي في شأن هوية خارق التهدئة وما كان لـ«حماس» أن تحققه من إطلاقها الصواريخ على إسرائيل، فصورة الجثث الملقاة في الشوارع أبلغ من أي خلافٍ في الرأي، لكن إلى متى يبقى الفلسطينيون رهينة الرهانات المجبولة بالدم؟ ومتى تتوقف الرسائل التي تتجاوز مصلحة قضية فلسطين؟

للفلسطينيين شرعيةٌ اسمها سلطة محمود عباس، انقلبت عليها «حماس» بحجة الفساد والتفريط من غير أن تقدم بديلاً لا بالنزاهة ولا بالخطة الموصلة إلى الحقوق، وواضح أنّ الخيار عبثي في ظل اختلال ميزان القوى السياسي والعسكري، وفي إطار تحول «حماس» من تعبير «أصولي» عن المصلحة الوطنية الفلسطينية إلى جزءٍ من المحور الإيراني-السوري، وحجم المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل دليل لا يحتاج إلى مزيدٍ من الإثبات.

سيكتشف أهل غزة أنّهم فريسة سياسةٍ لا تؤدي إلى مكان، فبعيداً عن لغة النضال والتأكيد على همجية العدو والوعد بالردّ المدوي، هناك مئات الجثث والجرحى وعشرات الأيتام، وغداً حين يهدأ القصف وتتوصل المساعي إلى تهدئةٍ جديدة يدركون أنهم عادوا إلى المربع الأول، وأن كلّ ما توقعوه من دعمٍ لم يكن إلا كلاماً يستجرّ الكلام.

جرح غزة ساخنٌ الآن، وبوسع غزة اليوم استثارة الغضب العربي والإسلامي ضدّ الإجرام الصهيوني، لكنّ غزة تُسأل أيضاً عن خيارها السياسي، فلا هي تختصر قضية فلسطين، ولا بوسعها اختزال نضال عشرات السنين بسلطة أمرٍ واقع رأت أنّ طريق القدس تمرّ عبر طرد الشرعية من القطاع والتشكيك بمشروعية من أسسوا الكفاح الفلسطيني المسلّح وورثوا ياسر عرفات.

غزة تحت سكين الإجرام، لكنّها لا تستطيع أن تمارس سياسة المحاور وترغم دولتين كبيرتين مثل مصر والسعودية على السير في ركابها ساعة تشاء، فهاتان الدولتان بحجمهما العربي والإسلامي وموقعهما الإقليمي كانتا على الدوام ضمانةً للنضال الفلسطيني، حتى لو ذهبت الأولى إلى كامب ديفيد، وأطلقت الثانية مبادرة السلام العربية، ومن دون الثقل والتوازن اللذين تمثلانه يستحيل التعامل مع المجتمع الدولي لاسترداد حقوقٍ وتأمين تضامنٍ عربي لنصرة أي فعل فلسطينيّ جهادي.

قبل أسبوع سُيّرت تظاهرات التضامن مع غزة تحت شعار «الصمت على الحصار حصار» مستهدفةً مصر والدور المصري، وأُرفقت بتنديدٍ شامل بـ«تخاذل الأنظمة العربية»، أما اليوم فغزة «تحت النار»، ولا يبدو أنّ تصريحات أحمدي نجاد، ولا أصوات «الشارع» العربي المستغيثة «وامعتصماه»، ولا الصواريخ «المجهولة المصدر» التي نُصبت في جنوب لبنان، تستطيع وقف المجازر فيها، بل ستدرك غزة أنّ «المظلة العربية الجامعة» هي وحدها السبيل الطبيعي لدرء العدوان عنها.

غزة تواجه اليوم بالصدر العاري عنف آلة الإجرام الاسرائيلية، وأفضل ما يتمناه أيّ عربي هو أن تقوى على المواجهة والانتصار، لكن إذا عجزت عن ذلك فإنها مرغمةٌ على العودة إلى «الحضن الطبيعي»، أي إلى شرعية الفلسطينيين التاريخية، وإلى فيء جوارها الجغرافي، وإلى لغة المنطق بعيداً عن مزايدات اتهام من اختار درباً مغايرة لاسترداد الحقوق... إلا إذا استمر الإصرار على خيار الانتحار.