بين إعلامين... وعالمين
ثمة خلل خطير في تعاطينا مع قيم الغرب ومستحدثاته؛ فمن جهة نحن نريد أن نتخير من تجليات الغرب وإبداعاته كل ما يخدم مصالحنا الراهنة، ونجتهد دوماً في الإشارة إليه وتعظيم قدره والتحسر على افتقادنا إياه، ومن جهة أخرى فنحن نرفض جزءاً جوهريا من تلك القيم والإبداعات، ونعتبر أن الاقتراب منها مسخ لهويتنا وسحق لحضارتنا وانتقاص من ديننا.وفي الحالتين نجد الخطاب الذي يدعم مواقفنا ويبرر خياراتنا؛ فمرة ندَّعي أننا «حداثيون قادرون على الاستفادة من منجزات العلم والتفوق والإبداع، مقدرون لقيم الحرية والديمقراطية والانفتاح»، ومرة أخرى نجزم بأننا «قابضون على معتقداتنا، ملتزمون ثوابتنا وتراثنا، ولا يمكن أن نُستباح لقيم الغرب وصنائعه، فننتهي مسلوبين».
وبين هذا وذاك، أمكن للنخبة العربية أن تعيش طيلة القرن المنصرم مشغولة باللعب على الحبال، ومرهونة للإجابة عن السؤال: «ماذا نأخذ من الغرب، وماذا نرفض مما يأتي إلينا به؟». وفي تلك الغضون كان الخلل يستفحل، ليتمثل في اعتوار واضح شديد الوضوح؛ إذ اعتبر قطاع منا كبير أن «بين ما يصلح للغرب ويزدهر فيه ما يمكن أن يصلح لنا ونستخدمه... الآن وهنا»، وذهب نفر آخر إلى أن السائد في الغرب «لا يمكن أن يجد حاضناً له هنا في الشرق أبداً»، والواقع أن الاتجاهين مخطئان على الأرجح.«الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»، هكذا قال الشاعر الإنكليزي روديارد كبلنغ، وعلى الأرجح فمعظمنا يصدقه، لكن هذا لا يمنع من القول إن: الشرق لن يلتقي الغرب أبداً لأنه ببساطة يركض وراءه، لردم هوة بينهما شديدة الاتساع. هذا بالضبط ما يحصل؛ فنحن نسير وراء الغرب لا بموازاته. هذا هو التشخيص الدقيق لوضعنا التاريخي الراهن، وليس ذلك أصعب ما في أزمتنا، بل ليس إشكالاً في حد ذاته، الإشكال ينشأ حين يعتبر بعضنا أن «وضعنا الحضاري متين، وأننا لسنا في حاجة سوى للوقوف في المكان واجترار عظمة الماضي واستعادته كاملاً»، أو بأننا «ملزمون بموازاة الغرب، والركض بجانبه، والتحول نسخة أخرى عنه».لدينا إشكال كبير، ونعيش أزمة حضارية، ويسبقنا الغرب في المجالات معظمها، ونحن ندرك ذلك، كما ندرك أيضاً أننا يجب أن نسعى لردم الهوة الحضارية، وألا نفقد خصوصيتنا وهويتنا والإيجابية والنبيلة من قيمنا في الوقت ذاته... تلك هي قناعتنا التي يجب أن نبنيها ونحرص عليها. فإذا زادت مستويات المعيشة في الغرب، وارتفعت معدلات التعليم، وانتشرت المستحدثات التقنية، وزاد الإقبال على استخدام الحاسب الآلي والإنترنت، وانتشرت المواقع الإلكترونية، وتطور حجم استخدامها والاعتماد عليها، حتى تأثر الإعلام التقليدي Traditional Media، وبدأ يعاني انحسار الطلب عليه، وراح يغير من استراتيجياته أو يعيد التفكير في إمكانية استمراره من عدمها، فإن ذلك لا ينسحب مباشرة على الوضع هنا في الشرق.فكما احتاجت المملكة المتحدة إلى سبعة قرون من العمل الشاق المضني لخلق ديمقراطيتها وتطويرها وتكريسها، فقد احتاج الإعلام الجديد New Media إلى عوامل عديدة وجهود كبيرة لينشأ أولاً ثم ليتطور ويهيمن على جزء كبير من أنشطة الاتصال في العالم الغربي. وكما أننا، بوضعنا الراهن، غير قادرين على مجاراة الديمقراطية البريطانية لأسباب عديدة، فإننا أيضاً غير مؤهلين لاستنساخ تجربة الإعلام الجديد استنساخاً متطابقاً وعيش تفاصيلها والتمتع بتطوراتها كما يتمتع بها العالم الغربي اليوم.يحلو للبعض من المثقفين وخبراء الإعلام والسياسة العرب القول إن الإعلام الجديد تسيد المشهد، وإن الإعلام التقليدي ليس أمامه سوى أن يحمل عصاه ويرحل، والواقع أن هذا الطرح لن يجد طريقه إلى الواقع ليس فقط في عالمنا العربي ولكن في الغرب أيضاً.يستدل هؤلاء بالأخبار التي تتوالى والإحصاءات التي تنشر؛ ومنها سماح البيت الأبيض بدخول مدون Blogger ليحضر الإيجاز الصحافي مع مراسلي كبرى وسائل الإعلام التقليدية في العام 2004، قبل أن تقلص العديد من الصحف المهمة طبعاتها الورقية بنسب كبيرة، وتركز جل اهتمامها على طبعاتها الإلكترونية.ويستشهدون بأن مجلة «تايم» الشهيرة أعلنت، في نهاية العام 2006، أن شخصية العام «أنت»، أو مستخدم الكمبيوتر والإنترنت، لتعكس التطور الكبير الحاصل في الوسط الإعلامي، وتكرس عهد الـ Citizen Journalist. وأمس أقام موقع «يوتيوب» You Tube احتفاله السنوي الأول، معلناً ان 13 ساعة من ملفات الفيديو يتم تحميلها على الموقع كل دقيقة، وأن 70 في المئة من مستخدميه من خارج الولايات المتحدة، وأن باراك أوباما أعلن بث تسجيل أسبوعي من خلاله. وبعد غد الثلاثاء، ستحتفل «كريستيان ساينس مونيتور» الجريدة المحترمة العريقة بمرور قرن على صدورها، وبتوقفها عن الصدور اليومي في نسختها الورقية في الوقت نفسه، لأن «مليون زائر يدخلون موقعها الإلكتروني شهرياً، فيما 200 ألف فقط يشترون نسختها الورقية في الفترة ذاتها».الكثير من التطورات تحصل في الغرب مشيرة إلى تراجع كبير في الإعلام التقليدي لمصلحة الإعلام الجديد، وخبراء عديدون في العالم العربي يعتبرون أن ما يحصل هناك يجب أن يحدث عندنا... الآن وهنا، وهو أمر مستبعد وغريب.وسائل الإعلام التقليدية في عالمنا العربي مازالت تنشأ وتتطور وتكسب أرباحاً وتزدهر، ووسائل الإعلام الجديد تنمو باطراد، لكنها لا تحظى بالرشد نفسه ولا الفاعلية نفسها التي تتمتع بهما في الغرب. لن يتراجع اعتمادنا على الإعلام التقليدي لمصلحة الإعلام الجديد بالدرجة نفسها التي تحدث في الغرب ولا في الوقت نفسه، لكننا في طريقنا لذلك ببطء وعلى استحياء، وإذا وصلنا فبعد وقت ليس بقصير.* كاتب مصري