السمكة تفسد من رأسها
في حديثه المتلفز الذي أذيع في الأول من ديسمبر الحالي، حاول الرئيس الأميركي جورج بوش أن يدافع عن كذبه في ما يتعلق بغزو العراق، فأوقع نفسه في «كذبات» جديدة دون أن يتمكن من إنقاذ نفسه من تبعات هذا الغزو ونتائجه الكارثية على السياسة الأميركية الخارجية والعسكرية والمالية، كذلك حاول أن يقدم نفسه ضحية خداع أجهزة المخابرات التي قال إنها صوّرت له بالأدلة المفبركة أن العراق بات يملك أسلحة الدمار الشامل، وأنه يستعد لاستخدامها مع أن الحقيقة التي اعترف بها العديد من أركان أجهزة مخابراته أن «فبركة» الأدلة على وجود أسلحة الدمار الشامل جاءت بناء على تعليماته وأوامر نائبه ديك تشيني ووزير دفاعه رامسفيلد ومستشاره وولفويتز مع أركان إدارته الذين ينتمون إيديولوجياً إلى ما اتفق على تسميته بالمحافظين الجدد.لقد حاول بوش في حديثه التلفزيوني أن يغسل يديه من كل التبعات وأن يضع اللوم على الآخرين الذين، كما قال، خدعوه وصوروا له الأمر على غير حقيقته، واللافت الذي أصاب واشنطن بالدهشة هو توقيت هذا الحديث، بحيث يبدو وكأنه بداية حملة سيخوضها بعد خروجه من البيت الأبيض لتبرئة ساحته داخلياً وعالمياً، وقد قيل الكثير في الصحافة الأميركية عن مسببات هذا الحديث المفاجئ، لكن الأغلبية اتفقت على القول إن بوش اعتمد الأسلوب التقليدي المعروف: خير الدفاع الهجوم، وكذلك حاول أن يستفيد من أسلوب سلفه بيل كلنتون في الفضيحة الجنسية المعروفة باسم مونيكا لوينسكي الموظفة الشابة في البيت الأبيض التي أقام معها كلنتون علاقات جنسية كادت أن تطيح برئاسته في الربع الأخير من نهاية القرن الماضي، وعندما جرى فضح هذه العلاقة بالصوت والصورة استعان كلنتون بمستشاريه القانونيين، ومن ثم بزوجته هيلاري الذين نصحوه بأن يعترف علناً بنصف الحقيقة، وهي أنه لم يقم علاقة جنسية كاملة مع لوينسكي بل استخدم ما عرف فيما بعد بسلاح السيكار الكوبي، وبهذا يصيب عدة عصافير بحجر واحد: يظهر بمظهر الرئيس الصادق، ثم يمسك بزمام المبادرة في إدارة دفة الفضيحة، ويخلق جواً لا علاقة له بالجو الذي حاول خصومه أن يفرضوه عليه.
وعلى الخصوم أن يثبتوا بالدليل القاطع النصف الآخر من الحقيقة، لقد نجح كلنتون إلى حد بعيد في لعب الدور الذي رسمه له مستشاروه، حيث استطاع أن يخرج من مأزق لوينسكي والسيكار مثل الخيط من العجينة. وعلى ما يبدو، فإن بوش قرر أن يلعب هو الآخر لعبة «نصف الحقيقة» هذه، وأن يفتح المعركة وهو في البيت الأبيض مستظلاً بحصانة الرئاسة قبل أن يستضعفوه.غير أن الواقع عكس ذلك، فإذا كانت جريمة كلنتون أنه استخدم «سلاح السيكار» غير القاتل ولم يصب أي مخلوق بأي ضرر، فإن في خزانة بوش أربعة آلاف هيكل عظمي لجنود أميركيين قتلوا وأكثر من مئة ألف من المعاقين والحبل على الجرار. هذا دون أن نذكر ملايين العراقيين الذين قتلوا وشردوا وهدمت منازلهم على رؤوسهم. ثم يأتي بوش وهو المسؤول الأول عن هذه المجزرة التاريخية ليقف أمام عدسة الـA.B.C ليمثل دور الأم الثكلى ويقول بأسى مصطنع: آسف لم أكن أقصد ذلك.هل نجح بوش من خلال حديثه التلفزيوني في أن يحدث اختراقاً عاطفياً لدى الجمهور الأميركي يساعده فيما بعد في مواجهة خصومه الذين بدأت أصواتهم ترتفع، مطالبين بضرورة تطبيق شريعة الثواب والعقاب؟ هذا ليس موضوع اليوم ولا الغد، إنه حديث المستقبل بالرغم من أن أوباما وعد بالمحافظة على وحدة الحزبين، وهذا يعني وضع ما فعله بوش في السنوات الثماني من حكمه في ثلاجة تمهيداً لنسيانه بالكامل، هذا إذا استطاع ذلك. ثم ماذا قال بوش حرفياً في مقابلته التلفزيونية؟ وهذا بنظري جدير بالتسجيل لأنه يعتبر وثيقة اتهام لا دفاع. أي أن بوش بالعربي الدارج والفصيح معاً ينطبق عليه المثل القائل: «جاء ليجبّرها... فكسرها». أقوال بوش مأخوذة عن النص الحرفي للمقابلة وهي أقوال حاول بعض أجهزة الإعلام التلاعب بها واللعب على معانيها، فجاءت مشوشة لا تعبر عما قصده بوش، وما لم يقصده، لذلك فإن تسجيل النقاط المهمة التي وردت في الحديث تعطي صورة متكاملة عن العقلية المجرمة التي قادت مجزرة القرن الحادي والعشرين التي لم تنته فصولاً إلى يومنا هذا، والتي لا يرى العالم نهاية منطقية وسلمية لها في المديين القصير والبعيد. حديث بوش بدأ بالقضية رقم (1) التي تشغل بال كل أميركي، وكل من يعيش في ظل الهيمنة الأميركية: الوضع المالي المتدهور بسرعة وبصمت... فقد قال متجاهلاً الحقائق الموجودة على الأرض: «عندما يكتب المؤرخون عن هذه القضية فإن الناس سيدركون أن القرارات الخاطئة التي أدت إلى هذا الوضع اتخذ معظمها في وول ستريت قبل أن أصبح رئيساً». دفاع أقل ما يقال فيه أنه ساذج وضعيف ولا يمكن أن يقف على رجليه في أي محكمة من محاكم العالم الثالث، فالردّ على هذا القول: وماذا فعلت عندما صرت رئيساً لإيقاف هذا التدهور؟ سجلات البيت الأبيض تشهد أن القرارات التي اتخذتها إدارة بوش قد سارعت في خلق فرانكشتاين المالي الذي يقف اليوم مستعداً لابتلاع العالم، ثم أوقع بوش نفسه، كطفل أهله لم يهذبوه، في شر كذبه، فقال إنه لم يعرف أبعاد الكارثة المالية إلا بعد أن وقعت، وإن إدارته ارتكبت أخطاء في بداية معالجتها تحت تأثير صدمة المفاجأة. إذن ماذا كان يفعل بوش وأركان إدارته في تلك الفترة؟ الجواب المنطقي أنهم كانوا مشغولين بمتابعة مخطط تدمير العراق ونهب ثرواته، ثم يتابع في مكان آخر من الحديث، حيث يحاول إلقاء مزيد من اللوم على رجال المال في «وول ستريت» فيقول: «لست خبيراً اقتصادياً... إن وول ستريت قد ثملت، ونحن أُصبنا بالصداع في اليوم التالي». وليس المطلوب من الرئيس أن يكون أحد جهابذة الاقتصاد والمال، لكن أين الخبراء؟ وماذا كان يفعل المستشارون؟ مرة أخرى كانوا مشغولين بسرقة بلد بأكمله وتدميره، وكل شيء غير ذلك لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد.والذي يثير الغضب أن بوش في حديثه هذا تنبأ أكثر من مرة بركود اقتصادي في الولايات المتحدة أكبر من الذي حدث في العام 1929، إذ قال ذلك دون أن يرف له جفن، وكأنه يبدي سروراً مبطناً بما حدث، وتلك حالة نفسية نادرة الوجود في أبناء البشر، فهو ينتقم من الشعب الأميركي الذي لم يقف بشكل كامل معه في غزوه للعراق، وبالتالي فهو يحمّل هذا الشعب مسؤولية فشله في العراق.غير أن الوضع الذي أثاره بوش في المقابلة، الذي يعتبر أكثر سخفاً واستهزاء بذكاء الناس، هو تحميله أجهزة المخابرات مسؤولية الغزو، لأنها أعطته صورة بعيدة عن الواقع، و«مفبركة» بشكل ساذج قبل الغزو وخلاله وبعده، ونسي أن عشرات وربما مئات الكتب قد تذخر بها المكتبات الأميركية والعالمية تثبت بالدليل القاطع أن بوش وعبر نائبه ديك تشيني الذي أشرف شخصياً على «فبركة» أكاذيب سلاح الدمار الشامل كان وراء الإصرار الشديد على أجهزة مخابراته، بأن يأتوه بأي سيناريو خيالي يستخدمه كمبرر للغزو.إن العودة إلى كتاب جورج تينيت مدير الـCIA بعد إقالته أو استقالته من منصبه يعطي أكثر من دليل على أن بوش كان يعرف مسبقاً أنه يكذب، بل أصدر في بعض الحالات تعليمات بزيادة «الفبركة» التي دفع ثمنها وزير خارجيته كولن باول من مستقبله السياسي. وللحديث صلة.* كاتب لبناني