ما قـل ودل: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن
مقولة مأثورة وحقيقة لا ريب فيها، وتصدق كذلك على النصوص التشريعية التي مهما أُحكم صياغتها ومهما بذل صنـاع القانون من مهارة في إعدادها وإحكامها، فإنها تظل حبراً على الورق إن لم تجد قاضياً يبعث فيها الروح ويطبقها تطبيقاً سليماً، وقديماً قيل أعطني قاضياً عادلاً ولا يعنيني بعد هذا في قليل أو كثير أن يكون القانون ظالماً، كما قيل إن القانون ميت أما القاضي فهو حي.ويصدق ذلك بوضوح على إنشاء المحكمة الدستورية العليـا في مصر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم (81/1969) الذي عهـد إليها دون غيرها برقابة دستورية القوانين، ذلك أنه لم يكن الهدف من إنشائها وجه الدستور والشرعيـة الدستورية وفقاً للظروف التي صدر فيها هذا القانون في اليوم ذاته الذي صدر فيه القانون رقم 83 لسنة 1969 الذي عرف بمذبحـة القضاء، حيث أقصـى 169 قاضياً من مناصبهم، بل كان الهدف من إنشائها الرغبـة في إبعـاد المحاكم عن رقابة دستورية القوانين، والتي كانت قد بسطت ولايتها عليها بحكم أصدره مجلس الدولة المصري في أول فبراير سنة 1948، وسارت على نهجه بقية المحاكم.
كما كان هناك هدف آخر لإنشاء هذه المحكمة هو أن يعهد لها قانون إنشائها بتفسير نصوص القوانين تفسيراً ملزماً لسائر المحاكم بسبب نظرة الريبـة والحذر من رجـال القضاء الذين تجرؤوا بإصدار بيان 28 مارس 1968. ليؤكد مبدأ الشرعية وسيادة القانون في ظل رقابة السلطة القضائية حيث كان النظام يخشى من رجال القضاء، عندما يضعون بيانهم موضع التطبيق العملي في القضايا التى تطرح على ساحة المحاكم فيقضون بعدم دستورية القوانين التي أصدرها النظام أو بتفسيرها تفسيراً لا يتفق مع توجهاتـه.وقد بالغ قانون إنشائها في الحذر من اختيار رجال القضاء الذين يتولون ولايتها فحدد لعضويتها ثلاث سنوات، يجوز التجديد للقاضي بعدهـا أو إقصاؤه عنها فأهدر النظام بذلك ضمانة من أهم ضمانات القضاء والعدالة هي عدم القابليـة للعزل، كما أختير لرئاستها وزير عدل سابق، وهو أمر لا يجري به تشكيل المحاكم، حرصاً على استقلال القضاء عن السلطـة التنفيذيـة، وبالرغم من صدور دستور جديد نص لأول مرة على هذه المحكمـة كضمانـة لتوكيد مبدأ سيادة القانون والشرعيـة الدستورية، فقد تراخى النظام في إصدار قانون المحكمة الدستورية العليا إلى عام 1979 بالرغم من أن هذا القانون هو أحد القوانين الأساسية المكملـة للدستور. وظلت أحكام المحكمة الدستورية العليا في مصر تصدر في استحياء شديد من القضاء بعدم دستورية القوانين التي طرح الطعن فيها أمامها إلى أن تولى رئاسـتها الفقيه الفذ والعالم الجليل المرحوم الدكتور عوض المـر، فكان هذا السيل المنهمـر من أحكامها التي انتصفت للشرعيـة وللدستور.وإذا كان يضيق المقام في هذا المقال عن استعراض الأحكام كلها التي أصدرتها هذه المحكمة صيانة لأحكام الدستور وحماية لحقوق وحريات الأفراد، ودفاعاً عن المكتسبات الديمقراطيـة وصيانتها للملكية الخاصة التي تضمنها مجموعات الأحكام التي أصدرتها هذه المحكمـة، ويكفينا قبل أن نعرض لبعض هذه الأحكام التي وقرت في ضمير الشعب، أن ننقل ما جاء في تقرير لمركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان تحت عنوان «انحراف البنية التشريعية في مصر من واقع الأحكام الدستورية» والذي استخلص من دراسـة أحكام المحكمة الدستورية المصرية عدة نتائج منها أن هناك 93 نصاً قانونياً قضت المحكمة بعدم دستوريتها، وأن النصوص التي أبطلتها المحكمة قد انتهكت 53 مادة من مواد الدستور البالغ عددها 211 مـادة أي أن ما لا يقل عن 25% من نصوص الدستور قد انتهكت من خلال 34 قانوناً، وأن حق المواطنين في التقاضي والمثول أمام قاضيهم الطبيعي قد انتهك من خلال 15 قانونا.وفيما انتهكت ثمانية قوانين مبدأ خضوع الدولة للقانون تعرضت الملكية الخاصة للانتهاك من خلال 31 قانوناً. أما حقوق المواطنين في الترشيح والانتخاب في المجالس التمثيلية فقد تعرضت بدورها للانتهاك من خلال ثمانية قوانين، كما انتهت الدراسة إلى أن 36.5% من النصوص التي ثبت عدم دستوريتها ترجع إلى ما قبل صدور دستور 1971، بينما صدرت النسبة الأكبر من القوانين غير الدستورية 63.5% في تواريخ لاحقـة لاعتماد دستور 1971.فتحية إجلال وتقدير للقاضي الفذ والعالم الجليل المرحوم الدكتور عوض المر اللهم اجعل هذه الأحكام في ميزان حسناته.