الهجمات العدوانية التي استهدفت عاصمة المال والثقافة والتسامح والفن، نيويورك الهند «بومباي» تحمل بصمات «القاعدة» وإن قام بها شباب باكستانيون ينتمون إلى حركة «لشكر طيبة» أي -عسكر الأتقياء- وهي حركة تأسست «1989» كجناح مسلح لجماعة «الدعوة والإرشاد» في بلدة «موريدكي» التابعة لمدينة «لاهور» للجهاد ضد الحكم الهندي وتحرير «كشمير الهندية»، وكانت لها علاقات سابقة بالاستخبارات الباكستانية، أيام الجهاد الأفغاني، لكنها تحولت إلى حركة إرهابية بعد ارتباطها بـ«القاعدة» كما ارتبط اسمها بالعديد من الحوادث الإرهابية منها: الهجوم الإرهابي على السكك الحديدية في ساعة الذروة ومقتل «200» راكب بريء عام «2000»، والهجمات ضد البرلمان الهندي، «ديسمبر 2001» التي أسقطت 10 قتلى، وكادت أن تدفع الجارتين النوويتين إلى شفا حرب رابعة، لولا تدخل الراعي الأميركي ومنها تفجيرات لندن 2005 التي أودت بـ53 شخصاً، وذكرت مجلة الدعوة أن عسكر طيبة نفذت 98 مهمة انتحارية في كشمير الهندية من قبل.

Ad

تأتي هذه الاعتداءات التي استهدفت المواقع التي تسمى بـ«الأهداف الرخوة» كالفنادق والمعابد ومحطات القطار، لتشكل تطبيقاً نموذجياً لأسلوب «القاعدة» في «القتل بالجملة» أي دون النظر إلى الجنسية أو الدين أو العمر و«القتل في أي مكان» أي في المسجد والمستشفى والمطعم ومجلس العزاء ومحطة الركاب و«القتل في أي زمان» أي من دون مراعاة حرمة شهر رمضان أو أيام الأعياد أو الحج، هذا مذهب دموي عدواني، لا يعرفه تاريخ المسلمين ولا البشرية، وقد ذكرنا في مقالة سابقة تشريح د. فضل «منظر الجهاديين السابق» للفكر القاعدي ووصفه بأنه «مذهب إجرامي دموي لتأصيل القتل بالجملة» لم يسبقه أحد، لقد كانت هجمات الهند الأشد دموية ورعباً بعد هجمات 11- 9 الأميركي، ولذلك سميت «11- 9 الهندي».

الآن: كيف نفسر هذه الهجمات؟ ولماذا جاءت في هذا الوقت؟ وما هي الأهداف؟

«كشمير» تشكل البؤرة الساخنة في شبه القارة الهندية، وهي مقسمة إلى شطرين: الباكستاني الأصغر وعاصمته «مظفر آباد» والهندي الأكبر وعاصمته «سرينا جار» وقد صدرت قرارات للأمم المتحدة 1947- 1948 بإجراء عملية استفتاء ليختار الكشميريون مصيرهم، إلا أنها لم تتم لأن الهند اشترطت أن تسحب باكستان قواته من كشمير الباكستانية وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه في 5 أغسطس 1947 «تاريخ التقسيم» طبقاً للبند الرئيسي في تلك القرارات، ولكن باكستان رفضت ذلك، وهكذا ظلت كشمير مصدراً للتوتر بينهما، وطبقاً لتحليلات الخبير بالشؤون الآسيوية د.عبدالله المدني، فقد حصل تطور جديد بعد أكثر من 6 عقود على التقسيم، إذا اقتنعت «إسلام آباد» بالفكرة الهندية التي ترى أن المدخل الصحيح لمعالجة القضية هو «المدخل الاقتصادي» عبر فتح الحدود بين الشطرين للتبادل التجاري والانتقال الحر للمواطنين، انطلاقاً من أن المصالح المتبادلة بين الطرفين، هي التي تضمن السلام، وهكذا وفي مطلع أكتوبر الماضي تم احتفال كبير بإعادة افتتاح طريق طوله 170 كم بين العاصمتين مظفر آباد وسرينا جار، الأمر الذي اعتبر تطبيعاً للعلاقات بين الطرفين وتدشيناً لمرحلة جديدة، حيث عبرت 16 شاحنة هندية محملة بالتفاح وجوز الهند والعسل والملابس من كشمير الهندية إلى كشمير الباكستانية، وبالمقابل عبرت 21 شاحنة باكستانية محملة بالأرز والزيت في الاتجاه المعاكس، كما قام رجال أعمال باكستانيين بزيارة سرينا جار لاستئناف عملية التبادل التجاري الذي كان متوقعاً أن يتصاعد في اتجاه إتمام عمليات التطبيع.

في ضوء هذه التطوارات يمكن تفسير هجمات 26 نوفمبر، إذ جاءت بهذه الكثافة والدقة والدموية لتماثل هجمات 11- 9 الأميركية، لضرب التقارب الهندي الباكستاني، وتخريب جسور التعاون وتضييع فرص السلام، واستدامة حالة التأزم بين البلدين، ولذلك استهدفوا رموز الفخر التاريخية للهند مثل «تاج محل» ومحطة القطارات «شاترا باتي» التاريخية، تماماً مثلما استهدف انتحاريو «11- 9» رموز الكبرياء الأميركية، ظناً بأن ذلك يدفع أميركا إلى الانكماش والخروج من المنطقة.

لقد استهدفت تلك الهجمات تحقيق هدفين:

1- ضرب التقارب الهندي الباكستاني خصوصا نحو تطبيع العلاقات بين شطري كشمير، ومن المؤكد أن هناك قوى سياسية ودينية باكستانية ترى في هذا التقارب إضراراً بمصالحها، كما أن الجماعات الكشميرية المسلحة ليس من مصلحتها هذا التقارب في إطار سعيها إلى ضم كشمير الهندية إلى باكستان، أو سلخها في كيان مستقل، وهذا يتطابق مع تصريح قائد شرطة بومباي من تورط عناصر باكستانية- لا علاقة لها بالحكومة الباكستانية- في تلك العمليات، كما يؤكد صحة هذه التصريحات، سعي الإدارة الأميركية إلى إدراج اسم رئيس الاستخبارات الباكستانية الأسبق «حميد غول» و4 مسؤولين استخباراتيين على القائمة الإرهابية للأمم المتحدة، ومعروف أن غول على علاقة وثيقة بالجماعات المتطرفة حتى بعد تقاعده.

2- محاولة «القاعدة» تشتيت الانتباه وخلط الأوراق وجر البلدين إلى المواجهة، بهدف تخفيف الضغط على مقاتليها من قبل الجيش الباكستاني في منطقة القبائل.

لذلك يعجب المرء حين يرى انسياق بعض الكتاب الذين عللوا تلك الهجمات بالقضية الفلسطينية، اغتراراً بتصريح الإرهابي المعتقل «كساب» الذي قال إننا أرسلنا للقيام بمهمة محددة هي استهداف الإسرائيليين للانتقام من الأعمال الوحشية التي يتعرض لها الفلسطينيون، في تصوري أن الزج بقضية فلسطين في هذه العمليات الإرهابية، إساءة إليها تماماً مثلما نسيء إلى الإسلام عندما نزج باسم الجهاد الإسلامي في تلك العمليات، أو نعللها بأنها رد فعل للظلم الواقع على المسلمين، يجب علينا الحذر من تلك الشعارات المرفوعة، فكل العمليات الإرهابية تتذرع بالإسلام وفلسطين والظلم الأميركي، لكنها كلها ذرائع كاذبة تماماً وذلك للعديد من الشواهد:

1- لا تتضمن أدبيات القاعدة «الأم»، ولا الجماعات المتناسلة عنها، أي إشارة إلى فلسطين، إذ تتحدث دائماً عن «العدو البعيد» أي أميركا لا القريب «إسرائيل» وحتى استهداف أميركا ليس لذاتها إنما ظناً من «القاعدة» أنها المساندة والحليفة الكبرى للأنظمة العربية القائمة، التي هي الهدف الرئيسي لـ«القاعدة» وخلاياها المتناسلة.

2- إنه تم استهداف المركز اليهودي «ناريمان هاوس» ضمن الأهداف الرئيسة الأخرى، كنوع من الدعاية السياسية، وكسب التعاطف الديني، بدليل أن القتلى الإسرائيليين لا يتجاوزون الـ«5» ضمن 188 قتيلاً معظمهم هنود أبرياء، من يريد الانتقام للفلسطينيين لا يقتل الناس بالجملة! ولو كانوا صادقين حقاً لاتخذوا من الإسرائيليين رهائن بهدف المساومة وتحقيق مكاسب سياسية للفلسطينيين، لا المسارعة بقتلهم، وإذا كانت إسرائيل هي المستهدفة فلماذا ضرب الفنادق ومحطة القطارات؟ من يريد خدمة فلسطين لا يخطط لقتل 5 آلاف بريء.

3- مما يؤكد كذب هؤلاء أنه لا «القاعدة» ولا الخلايا الأصولية المتأثرة بفكرها، استهدفت ولو لمرة واحدة إسرائيل بعملية إرهابية واحدة.

4- لقد اعترف «كساب» بأنه من أسرة فقيرة، وأن والده سلمه إلى «عسكر طيبة» مقابل 200 ألف روبية باكستانية، حيث تم تدريبه على الأعمال القتالية، وتلقينه المفاهيم الدينية المتعصبة.

الآن ما واجب العرب والمسلمين تجاه هذه الهجمات؟

لقد سلك مسلمو الهند سلوكاً إسلامياً راقياً، إذ رفضوا دفن جثث المسلحين التسعة في مقابر المسلمين معللين ذلك بأن الإسلام يحظر قتل الأبرياء أياً كانت الأسباب وأن ما فعله هؤلاء قد جلب «الخزي» للمسلمين.

إن العالم ينتظر أن يسمع صوت المسلمين ويرى تحركاتهم الواضحة تجاه معالجة هذه الأحداث، وعلينا أن نفيد من دروس الماضي ولا نكرر الأخطاء السابقة تجاه اعتداءات 11- 9 الأميركي، إذ كان موقفنا متذبذباً على طريقة «نستنكر الإرهاب ولكن» فقام بعض المسلمين بتبريرها بذريعة أنها «جزاء وفاقاً» للسياسات العدوانية الأميركية، وقام آخرون بنفي صلة المسلمين بها وتحميلها اليهود أو الاستخبارات الأميركية، على طريقة أن أميركا ضربت نفسها بنفسها ذريعة لاحتلال أفغانستان، وفي هذا الصدد أرى أنه من واجبنا أن نقوم بالمساعي الآتية:

1- مساندة ودعم الشعب الهندي وإشعاره بأننا معهم في محنتهم، نشاركهم مشاعرهم ونتعاطف معهم.

2- مطالبة الهند بضبط النفس وعدم الانقياد للنزعات المطالبة بالانتقام، حتى نفوت الفرصة على الإرهابيين الذين يريدون استفزاز الهند للرد الانتقامي.

3- مطالبة باكستان وتشجيعها على التعاون مع المطالب الهندية ومحاكمة من ثبت تورطه من الباكستانيين، كما أن على باكستان التحرك بجدية نحو مكافحة الإرهاب الذي ابتليت به.

4- تشجيع التقارب الهندي الباكستاني نحو تطبيع العلاقات بين شطري كشمير، واتخاذ موقف واضح ورافض لكل المشاريع الانفصالية، وعدم دعم الفصائل المتمردة من أجل استقلال كشمير.

5- علينا استمرار السعي للمهمة الأشق، وهي تحرير مفهوم الجهاد الإسلامي من أسر الذين اختطفوه ووظفوه في مشاريعهم العدوانية.

* كاتب قطري