أسعار المواد الغذائية في ارتفاع مستمر، يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة، والجميع يئن ويشتكي من نار الغلاء، ولا يبدو أن هناك إجراءات حكومية فعلية قادرة على كبح جماح الجشع والطمع، الذي أصاب بعض التجار ممن ماتت ضمائرهم وخربت ذممهم، أولئك الذين استغلوا موجة «الغلاء العالمي» التي طالت شعوب الأرض كلها أبشع استغلال، فجعلوها مضاعفة مرتين على المواطنين والمقيمين البسطاء، بلا أدنى رحمة أو شفقة، وراحوا يرفعون الأسعار تدريجيا حتى وصلت إلى ضعف سعرها السابق، وربما أكثر، والحق أنني لا ألوم هؤلاء التجار على جشعهم وطمعهم، فنحن وقود ذلك الجشع والطمع، ونحن الذين شجعناهم على هذه الزيادات، حين واصلنا شراء سلعهم رغم إدراكنا التام، أن أسعارها مفتعلة وغير منطقية بالمرة!
وإذا ما أردنا أن نعيد الأسعار الى ما كانت عليه، أو على الأقل مع زياداتها الحقيقية المنطقية مثل بقية الدول المجاورة، التي أصبح بعض المواطنين يتسوقون منها أول كل شهر، هربا من جحيم الغلاء المستعر في بلدنا، فإن علينا كمستهلكين أن نحتج ونعبر عن احتجاجنا عمليا، بأن نستخدم مع هذه النوعية من التجار «سلاح المقاطعة» الذي أثبت نجاحه على الدوام، وهو خير ما تصنعه الشعوب الحية الواعية، فحين يقوم تاجر ما بزيادة أسعار سلعه زيادة غير مستحقة وبلا مبرر معقول، تتم مقاطعة هذه السلع من قبل المستهلكين، ويتم استبدالها بسلع أخرى منافسة وبسعر أقل، الأمر الذي يتسبب في الضرر لذلك التاجر الجشع والذي ستنخفض مبيعاته كثيرا نتيجة المقاطعة، ليقوم مجبرا ومرغما وذليلا بخفض أسعاره، حتى لا «تطيح بجبده»، بل وربما توسل الزبائن ليشتروا سلعة من سلعه، وذلك من خلال تقديم بعض العروض الخاصة والمغرية لهم، ليتمكن من تصريف ما كسد لديه من بضائع، ويصبح «خوش آدمي»!شخصيا، طبقت هذه المقاطعة فعليا، فقد توقفت منذ عام ونصف العام عن شراء أي سلعة تحمل شعار إحدى شركات الألبان المحلية، حين علمت أنها تبيع سلعها في الدول المجاورة بنصف السعر الذي تبيعه محليا، واستبدلت خلال تسوقي الكثير من السلع ذات الزيادة العالية المفتعلة، بأخرى بديلة لم ترفع سعرها كثيرا، واكتشفت أنها لا تقل جودة عن تلك التي اعتدت شراءها، بل إنها كانت أفضل في أحيان كثيرة، ومع هذا، كنت دائما ما أصادف مشهدا يحيرني على الدوام، يحدث ذلك حين أرى أحد المستهلكين «عافسا وجهه» وهو يعاين السعر على إحدى السلع، متذمرا و«متحلطما» من ارتفاع سعرها المبالغ فيه، وهو يشتم بصوت خافت وكلاء هذه السلعة وبقية السلع «لا أبوكم يا عيال...»، لكنه بعد هذا «التحلطم» الكبير والشتائم المعتبرة يضع السلعة في سلته خاضعا خانعا، وكأنه مجبر على شرائها، أو أنه سيموت إن لم يشترها!الحقيقة المُرَّة يا اخوان، هي أن وزارة التجارة لن تستطيع أن تصنع الكثير في حربها ضد الغلاء المفتعل، رغم جهودها الواضحة في الآونة الأخيرة، فلا تعولوا كثيرا على الإجراءات التي ستقوم بها من أجل خفض الأسعار، ولن يحميكم جهاز حماية المستهلك، رغم إخلاصه، من جشع التجار وطمعهم، ولو كان قادرا على ذلك لفعله منذ زمن، لكن هذا كله لا يهم، لأن الأمر في الواقع، يبقى رهن أيديكم وراجعا إليكم، وتبعا لسلوككم الاستهلاكي ستكون النتيجة، فإن كان لديكم الوعي الكامل والعزيمة المطلوبة، وقاطعتموهم ولم تشتروا منهم شيئا، فإنهم سيخضعون لكم جميعا، وسيطلبون رضاكم بكل الطرق، وسيبيعون لكم سلعهم بطريقة «واحد زائد واحد مجاني» وهم صاغرون! اسمعوا هذه الحكاية...جاء الناس يوما، يشكون أمرهم إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقالوا له: غلا اللحم يا أمير المؤمنين فسعِّره لنا، فرد عليهم قائلا: أرخصوه أنتم!! فقالوا له: نحن مَن يشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين، فتقول لنا، ونحن أصحاب الحاجة، أرخصوه أنتم!! وهل نملكه حتى نرخصه؟! ثم كيف نرخصه وهو ليس في أيدينا؟! قال: اتركوه لهم!وأنتم أيضا... اتركوا لهم بضائعهم... حتى «تخيس» في مخازنهم!
مقالات
اتركوها... حتى تخيس!
21-08-2008