المعجزة الديمقراطية في إندونيسيا

نشر في 17-09-2008
آخر تحديث 17-09-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت إن المعجزات مازالت تحدث في عالمنا المعاصر. فمنذ عشرة أعوام، حين خربت الأزمة المالية الآسيوية اقتصاد إندونيسيا، تكهن عديد من الخبراء بأن البلاد سوف تعاني عدم الاستقرار، بل وحتى الانهيار. ولكن إندونيسيا، البلد الإسلامي الأكثر ازدحاماً بالسكان، خرج من الأزمة وقد أصبح منارة للحرية والديمقراطية في العالم الإسلامي. ولكن ماذا حدث؟ وكيف لم ينتبه العالم إلى ذلك؟

إن القصة معقدة بقدر تعقيد إندونيسيا ذاتها. كان الخبير الرائد في شؤون إندونيسيا، بنديكت أندرسون، قد أرجع الطبيعة التي تتسم بها إندونيسيا إلى ثقافتها الجاوية الأساسية، وبصورة خاصة التقاليد الدينية المرتبطة بفن تحريك العرائس «وايانج». يقول أندرسون: «على النقيض من الديانات الكبرى في الشرق الأدنى... فديانة الوايانج ليس لها نبي، ولا رسالة، ولا كتاب مقدس، ولا مُـخَلِّص... وهذا التنوع الذي لا ينتهي والفردية الصارخة التي تتسم بها شخوصها الدرامية يشيران إلى أن «الوايانج» تعكس تنوع وتلون الحياة البشرية كما يستشعرها أهل جاوه...». أو نستطيع أن نقول باختصار إن الثقافة الجاوية تساعد إندونيسيا في التعامل مع الأصوات المتنوعة العديدة التي تبرزها الديمقراطية الجديدة.

هناك أيضاً التقليد الإندونيسي القوي المتمثل في حل الخلافات من خلال «المشاورة والإجماع». لا شك أن هذا التقليد لم ينجح في منع العنف في كل الأحوال، وبصورة خاصة أعمال القتل التي أعقبت انقلاب عام 1966 ضد الرئيس سوكارنو. ومنذ عشرة أعوام، أثناء الأزمة المالية، اندلعت من جديد أعمال الشغب المناهضة للصينيين، الأمر الذي دفع العديد من الصينيين إلى الفرار من البلاد.

ولكن اليوم عاد أغلب هؤلاء الصينيين الذين فروا. ففي تطور غير عادي، سُـمِح للغة الصينية، التي ظلت خاضعة للقمع عقود عدة من الزمان، بالتعبير الحر. وفي المقابل، دعونا نتخيل تركيا، الدولة العضو الأكثر تقدماً في منظمة المؤتمر الإسلامي، وقد سمحت للغة الكردية والثقافة الكردية بالتعبير الحر.

يبدو سجل إندونيسيا أكثر إذهالاً حين نقارنه بسجل الولايات المتحدة. فالأميركيون يفسرون ارتداد بلدهم عن الديمقراطية بالإشارة إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية. ولكن الإرهاب ضرب إندونيسيا أيضاً، حيث جاءت تفجيرات بالي بعد عام واحد تقريباً، في الثاني عشر من أكتوبر 2002. ورغم ذلك نجحت إندونيسيا في تعضيد ديمقراطيتها. حتى أن منظمة «دار الحرية» (Freedom House) أعلنت في عام 2005 أن إندونيسيا انتقلت من «حرة جزئياً» إلى «حرة».

إن الرئيس سوسيلو بانبانغ يودهونو يستحق القدر الأعظم من الفضل في هذا النجاح المذهل. ففي ظل زعامته تم التوصل إلى حل سلمي للصراع الطويل المؤلم في إقليم اتشه. وبعضهم يُـرجِع الفضل في هذا إلى التسونامي الذي ضرب البلاد في عام 2004، والذي قتل مئات الآلاف من الآتشيين. بيد أن التسونامي نفسه ضرب سريلانكا أيضاً، ومنذ ذلك الوقت تفاقم الصراع بين السنهاليين والتاميل.

إن الخطر الأعظم الذي يتهدد الديمقراطية في إندونيسيا اليوم يأتي من أميركا، رغم أن أغلب الأميركيين راغب في نجاح الديمقراطية في إندونيسيا. فمع ازدهار التكنولوجيا الحديثة، بات بوسع المسلمين في إندونيسيا أن يطلعوا بوضوح على المحنة التي يعيشها المسلمون في غزة، والنتائج المأساوية التي أسفر عنها الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، والصمت الأميركي حين قُـصِفَت لبنان في شهر يوليو 2006. أصابت الحيرة العديد من كبار المسؤولين الأميركيين حين رفضت تركيا، الدولة العلمانية والحليفة القديمة لحلف شمال الأطلنطي (الناتو)، السماح للقوات الأميركية باستخدام تركيا كقاعدة لغزو العراق. وإذا كانت المشاعر المعادية لأميركا قد اجتاحت المجتمع العلماني نسبياً في تركيا، فقد تجتاح المشاعر نفسها المجتمع الإندونيسي.

الحقيقة أن نُـذُر الصراع، بين هؤلاء الذين يريدون لإندونيسيا أن تصبح أكثر ميلاً إلى الأصولية وأولئك الذين يريدون الحفاظ على الطبيعة المنفتحة المتسامحة للثقافة الجاوية، باتت تلوح في الأفق. والعجيب أنه على الرغم من رغبة العديد من الأميركيين والأوربيين في نجاح المسلمين المعتدلين في إندونيسيا (وجنوب شرق آسيا)، فإنهم كثيراً ما يتسببون في إضعاف موقف المعتدلين بانتهاج السياسات التي يرى المسلمون أنها معادية للإسلام.

إن موقف أميركا من تقديم المساعدات العسكرية لإندونيسيا ليس أكثر من مثال واحد من بين أمثلة عديدة. فلسنوات عديدة أصر بعض أعضاء مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة على انتهاج سياسة عقابية في التعامل مع إندونيسيا بقطع المساعدات العسكرية عنها وتقليص خطط التدريب العسكري للقوات الإندونيسية في الولايات المتحدة. ولا شك أن هذه السياسات العقابية لابد أن تضر بالمصالح الأميركية. ففي الأعوام الأخيرة، قدمت المؤسسة العسكرية الإندونيسية نموذجاً لبقية القوات العسكرية في العالم الثالث فيما يتصل بقبول التحول نحو الديمقراطية الكاملة. والآن لا يوجد تهديد بحدوث انقلاب في الحكم، ولقد عاد كبار الجنرالات الذين درسوا في الكليات العسكرية الأميركية إلى إندونيسيا كديمقراطيين متحمسين.

إنها لمأساة أن نسمح للجهل بمدى التغير الحاصل في إندونيسيا بتعريض تطورها الديمقراطي للخطر- ودورها كمنارة للحرية والأمل في العالم الإسلامي. وإننا لنتمنى في حالة فوز باراك أوباما بالانتخابات الرئاسية الأميركية أن يتذكر إندونيسيا المتسامحة، التي نشأ فيها، وأن يعمل على صياغة السياسات نحوها طبقاً لذلك.

كيشور محبوباني

* عميد كلية لي خان يو للتخطيط العام بجامعة سنغافورة الوطنية. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان «نصف الكرة الأرضية الآسيوي: التحول الغامر في القوى العالمية نحو الشرق».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top