Ad

إن أقفاص المنظرين والنقاد تصنع فقط من أجل صغار المبدعين العاجزين عن الغوص والتمرد والاختراق، بينما يظل المبدع الكبير المسلح بالبصيرة والموهبة الخلاقة قادرا في كل الأحوال على الإدهاش وتحطيم الأقفاص والانقلاب على ذاته واختيار أو تغيير مساراته الإبداعية.

يتراجع المألوف النقدي بأطره وقواعده عندما يباغتنا مبدع موهوب بعمل إبداعي جميل خارج عن المألوف، هذا الخروج الإبداعي يدفع النقد إلى خروج مواز يجدد به ذاته وأطره ليواكب الجديد في مجالات الإبداع المختلفة، ولكي لا تتحول النظريات والمناهج النقدية إلى عوائق وأقفاص حديدية ضررها مؤكد ونفعها مشكوك فيه.

والإبداع يضعنا أحيانا أمام مسارات إبداعية مدهشة لمبدعين يصعب أسرهم وحبسهم في تيارات فنية بعينها، ولمبدعين آخرين أبدعوا منطلقين من حوافز ودوافع ازدراها النقد أو تجاهلها، ولدينا الكثير من كتب النقد تتحدث عن العملية الإبداعية، ومراحلها المختلفة وتسهب في الحديث عن الحافز الجمالي أو الفني الذي ينشط المبدع، ويدفعه إلى بناء وتشكيل عمله، وتنسى هذه الكتب أن المبدع الموهوب بوسعه اختراع حافزه والانطلاق أحيانا من حوافز طريفة وغير جمالية في الأغلب، وفي مقدمة هذه الحوافز حاجة المبدع إلى المال، واضطراره إلى الإبداع أحيانا من أجل الحصول عليه.

وقد كان الروائي الأميركي الكبير «وليم فوكنر» يتحدث أحيانا عن بعض أعماله قائلا: «كتبتها بسبب الأغراض الدنيئة التي تعرفونها» وكان يقصد بهذه الأغراض حاجته إلى المال، وهي الحاجة نفسها التي كانت تلهب ظهر الكاتب الروسي الشهير «ديستوفسكي» الذي كان دائم الشكوى من تراكم الديون ومطاردة الدائنين له، ومن ثم اضطراره الدائم للكتابة وللإسهاب أحيانا لإسكات دائنيه.

وفي منتصف السبعينيات ذهب الصديق الراحل «محمد مستجاب» بإحدى قصصه القصيرة إلى مجلة «الكاتب» وكان يرأس تحريرها في ذلك الوقت الشاعر «صلاح عبد الصبور» الذي قال بعد قراءة القصة: «هذه رواية يا مستجاب وسأمنحك أكبر مكافأة شهرية إذا سلمت المجلة فصلا جديدا أول كل شهر». ولم يكن مستجاب قد فكر أو أعد نفسه لكتابة رواية لكن المكافأة التي وعده بها عبدالصبور أغرته، فراح يكتب فصلا بعد آخر، وكانت روايته الجميلة «من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ» التي قدم لنا فيها بطله السلبي والهامشي واللا بطل، وأدخلنا مبكرا وبعفوية عالم الواقعية السحرية قبل أن نقرأ بورخيس وماركيز وكتّاب أميركا اللاتينية، وهذه الرواية كانت في واقع الأمر جزءاً من رواية أكبر، فقد كان مستجاب يستعد لإنجاز جزئها الثاني، وقرأ لي ولبعض أصدقائه فصلا ممتعا يدور حول بطل الرواية الذي يقاضي الكاتب بسبب الحط من شأنه وتحقيره وإظهاره في الرواية بمظهر العاجز والأبله... لكن حماس مستجاب فتر ثم تلاشى بعد سفر صلاح عبدالصبور إلى الهند عام 1976.

والحاجة إلى المال كما يعرف قراء شعرنا القديم كانت وراء قصائد المديح ومعظم قصائد الهجاء، كما كانت أيضا وراء الكثير من كتب التراث التي كانت تُهدى إلى الخلفاء والأمراء والوزراء طمعا في جوائزهم ومِنحهم التي كانت تعين الكتاب على الحياة، خاصة في عصور ما قبل الطباعة والانتشار الواسع للكتاب.

بالإضافة إلى المال والحاجة إليه هناك حوافز أخرى طريفة، فالشاعر الأميركي «والت ويتمان» قرأ مقالا عن الشعر كتبه المفكر والشاعر «رالف والدو امرسون» ونشره عام 1844 يدعو فيه الشعراء إلى الكف عن تقليد الشعر الأوروبي وكتابة شعر أميركي يرتبط ارتباطا عضويا بذلك العالم الجديد والشاسع، وبكل ما فيه من بشر وشجر وأنهار وصحارى فينطلق «ويتمان» من هذه الدعوة ليكتب مجموعته الشعرية الشهيرة «أوراق العشب» التي تنصبه أبا للشعر الأميركي، ويرسل نسخة منها بعد طبعها إلى المفكر مصحوبة برسالة يقول فيها: «إن هذه المجموعة هي الاستجابة العملية لدعوتك» ولأن الحوافز الطريفة لا تحصى يهمني هنا أن أقول إن أقفاص المنظرين والنقاد تصنع فقط من أجل صغار المبدعين العاجزين عن الغوص والتمرد والاختراق بينما يظل المبدع الكبير المسلح بالبصيرة والموهبة الخلاقة قادرا في كل الأحوال على الإدهاش وتحطيم الأقفاص والانقلاب على ذاته واختيار أو تغيير مساراته الإبداعية.

* كاتب وشاعر مصري