في موسكو، كاد الاجتماع الأول الذي عقد بين الوفدين العسكريين اللبناني والروسي لبحث حاجة الجيش اللبناني إلى السلاح أن يتحول الى «كارثة سياسية» كبرى. في الواقع فإن كارثة صغيرة قد وقعت لكن الوفد الروسي أخذها بصدر رحب ولم يقف عندها، بل تابع البحث فيما يجب أن يبحثه.

Ad

كان من المفروض أن يكون الوفد اللبناني قد انتهى من «فرضه المدرسي»، أي من تقرير ما يريد من الترسانة الروسية لتقوية الجيش. لكن في هذا الاجتماع الأول تبين للروس أن الوفد اللبناني لم يحمل معه لا «لائحة شراء» ولا أي شيء يدفع إلى الاعتقاد أن الحكومة اللبنانية أخذت على محمل الجد العرض الأولي الروسي بمساعدة تسليح الجيش اللبناني. كل ما كان لدى الوفد اللبناني هو عبارة عن أسئلة للتأكد من أن العرض الروسي هو حقيقة وليس مناورة. في الظروف العادية، ومع دولة غير لبنان، كان من الطبيعي أن ينتهي هذا اللقاء، الذي حددت له موسكو أسبوعاً كاملاً، في جلسة واحدة.

غير أن الوفد الروسي أدرك بسليقة القوة العظمى أن الوفد اللبناني جاء بمناورة لا موجب لها، وأن على روسيا أن تعيد الإمساك بدفة المحادثات والتأكيد للوفد اللبناني أن موسكو أكبر حجماً من أن تستخدم أسلـوب المناورة مــع بلد تريد أن تضمه إلى مجموعة أصدقائها في الشرق الأوسط. لذلك سلكت طريقاً مغايراً للطريق الذي سلكه الوفد اللبناني وقررت أن تعرض أكثر ما عندها في ترسانتها من أجل زرع الاطمئنان، منذ البداية، في الوفد اللبناني نفسه، وإعطاء المحادثات العسكرية الطابع الجدي دون الالتفات إلى «المناورة» اللبنانية الصغيرة التي كانت تستهدف «جمع معلومات» عن حقيقة الموقف الروسي وليس الاتفاق والتفاهم على العرض الروسي في المساهمة في بناء الجيش اللبناني لوجستياً.

هذا مع الأخذ بالاعتبار أن «ثعالب موسكو» أدركوا منذ البداية ما يرمي إليه الوفد اللبناني لكنهم رغبوا في تحويل دفة الحديث من أسلوب جمع المعلومات إلى البحث الجدي والمركـّز على ما يطلبه لبنان من موسكو لإعادة بناء جيشه. فعندما طلب الوفد الروسي لائحة ما يطلبه لبنان، ارتبك وزير الدفاع إلياس المرّ الذي كان يترأس الوفد العسكري اللبناني واضطـُر أن يقول إن حقيبته السرية لا تحتوي على ذلك. وكل ما عنده هو مجموعة أسئلة لمعرفة المدى الذي حددته موسكو في تسليح الجيش اللبناني، وعلى هذا الأساس لم يضع لبنان «لائحة شراء الأسلحة بعد، وأنه سيقدمها لاحقاً».

لابد من التنويه إلى أن «ثعالب موسكو» بلعوا ما اعتبره بعض أعضاء الوفد الروسي «إهانة»، وقد ساعدهم على ذلك برودة الطقس والرغبة في استكمال الاستراتيجية الروسية في ملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة بسياستها الطائشة مع تناسي كل شيء آخر. وقرر الروس أن يقدموا عرضاً للوفد اللبناني بأسلوب المافيا الدولية: سنعطيكم عرضاً لا يمكنكم رفضه. وكانت المفاجأة التي أطاحت بصواب الوفد اللبناني والتي لم يكن يتوقعها على الاطلاق، وليس أمامه سوى القبول والترحيب بها على الأقل من الناحية المبدئية. وهنا قدّم الروس ما عرف فيما بعد بـ«الهبة الروسية» المؤلفة من 10 طائرات «ميغ 29» مع قطع غيارها وتدريب العناصر اللبنانية على استخدامها. كل ذلك مجاناً. ولم ينس «ثعالب موسكو» أن يقولوا للوفد اللبناني ما معناه: نبدأ من هنا ونحن ننتظر موافقتكم ولائحة حاجتكم إلى أكثر من ذلك ليجري درسها في إطار الرغبة في تحقيق ما يمكن تحقيقه في إطار الصداقة والرغبة في المساهمة في قيام جيش لبناني قادر على حماية حدوده من أي اعتداء خارجي.

وأُسقِط في يد الوفد اللبناني وظهرت علامات المفاجأة ووجد إلياس المرّ الذي كان يتحدث بوصفه وزيراً للدفاع أن يصرخ قائلاً: عظيم. وعندما عاد إلى روعه، شكر الروس على كرمهم وعلى «حبهم للبنان» وذكر أنه يقبل هذا العرض الكريم من الناحية المبدئية، بل ويرحب به كثيراً، وأن الحكومة اللبنانية ستكون مسرورة وممتنة جداً لهذا العرض السخي وأنها ستعتبره بداية جيدة للتعاون العسكري بين البلدين في المستقبل القريب جداً. وكان إلياس المرّ صادقاً عندما ذكر أنه لا يملك حق القبول النهائي إلا بعد العودة إلى السلطات في بيروت لكنه كان واثقاً من أن موقف بيروت لن يختلف عن موقفه هو.

وهذا ما كان يريد سماعه الوفد الروسي من خلال تقديمه هبة الطائرات العشر مع لوازمها حتى تصبح صالحة للاستعمال بأيدي لبنانية. وخطة «ثعالب موسكو» كانت واضحة: البدء من قمة الجبل لادخال الطمأنينة للبنان وللذين يشكّون بنواياه من أصدقاء لبنان، خصوصا الولايات المتحدة، ثم ينحدر ببطء وهدوء من هذه القمة إلى أن يصل إلى السفح.

وكطفل مُنِحَ لعبة كان يحلم بها، لم يخف الياس المرّ سروره بها وعندما انتهى الاجتماع الأول سارع إلى الإعلان الرسمي عن وجود هذه الهبة وفي اعتقاده أنه يرد على مناورة «ثعالب موسكو» بمناورة أخرى هدفها منع روسيا من التراجع. ولم يدرِ «الطفل اللبناني» أن هذا بالضبط ما كانت ترمي إليه موسكو وثعالبها ذوو الفرو الأبيض حتى ولو تتم صفقة الطائرات العشر، لسبب أو لآخر، فإن جدية العرض الروسي بمساعدة بناء الجيش اللبناني أصبحت أمراً واقعاً وأكثر جدية مما يعتقده البعض. وبهذا حققت موسكو الجزء السياسي المطلوب من استراتيجيتها الجديدة في العودة إلى مياه منطقتنا الدافئة، وهو الحلم الذي قلنا عنه في المقال الأول، إنه راود القياصرة الروس، وسعى الحكم الشيوعي الذي دام أكثر من 70 سنة إلى تحقيقه دون جدوى.

تبقى نقطة مهمة من المفيد ذكرها وهي تتعلق بالحالة النفسية للطائفة الأرثوذكسية المسيحية في لبنان تحديداً، وفي الشرق الأوسط بشكل عامّ. إن الياس المرّ هو مسيحي أرثوذكسي، يعتبر نفسه، مثل أبيه ميشال المرّ، أنه يمثل الطائفة الأرثوذكسية، في المناصب السياسية والوزارية. وقد طرح ميشال المرّ بنجاح منقطع في العقود السابقة نفسه على أنه «الممثل الشرعي والوحيد» لطائفته. كذلك فإن سورية حافظ الأسد ومن بعده ابنه الدكتور بشار يعترفان عملياً وواقعياً بزعامة آل المرّ على الطائفة الأرثوذكسية، ثم جاء ميشال سليمان إلى رئاسة الجمهورية حيث سار في الدرب نفسه. والسبب في ذلك أن أكثرية المسيحيين السوريين هم من الأرثوذكس ذوي الأصول والاتجاه العربيين. وقد شهدت سورية، منذ استلام حافظ الأسد دفة الحكم في أعقاب ما يسمى بـ«الحركة التصحيحية» في عام 1970 تحالفاً قوياً بين الأرثوذكس والعلويين. وقد أثبت ميشال المرّ أنه السياسي المطواع طيلة فترة هذا التحالف وإلى يومنا هذا. واليوم تأتي «فاتيكان الأرثوذكسية» موسكو لتكريس هذا الوضع مع وريث الزعامة الأرثوذكسية في لبنان عن طريق إتمام صفقة العصر وبواسطة هذا الأرثوذكسي. إن الياس المرّ، وزير الدفاع، ووالده، ربما ينظران إلى الصفقة التي عرضتها موسكو إثباتاً جديداً على ديمومة نفوذهما في لبنان. لذلك فإن إلياس المرّ، قد نسي، وهو في غمرة هذا التحليل، ارتباطات لبنان بالغرب، خصوصا بالولايات المتحدة وقرر أن يضع كل ثقله وراء اتمام هذه الصفقة أو غيرها.

تبقى الناحية العسكرية حول طائرات «الميغ» وغيرها من المتطلبات العسكرية اللبنانية لا يتسع المجال لذكر تفاصيلها المهمة في هذا المقال. لذلك سأخصص حلقة ثالثة في الأسبوع المقبل للحديث بالأرقام والوقائع الفنية العسكرية في إطار محاولة الرد على الأسئلة الحيوية: هل يَرفض لبنان صفقة «الميغ» ولماذا؟ وما هي لائحة شراء الأسلحة من روسيا لإعادة تأهيل الجيش اللبناني؟ مع العلم أن وزارة الدفاع باشرت بوضع دراسة حول طائرات «الميغ»، ودراسة أخرى حول الأسلحة المطلوبة من روسيا.

* كاتب لبناني