Ad

علاقة المعرفة بالسلطة قديمة ومتجددة ويكفي أن نشير إلى سلطة ومكانة العراف والعارف في التراث العربي والعالمي، وإلى تميز العالم ورتبته الأسمى في الدين الإسلامي، وإلى الإبداعات والابتكارات التي غيرت صورة العالم.

قبل نصف قرن كانت الدولة ترفع راية التعليم وتعتبر الأمية مرضا وسببا من أسباب التخلف وتفتح المدارس ليلا لتعليم الكبار ومحو أميتهم، ومازلت أتذكر رحلات التلصص الليلية إلى المدرسة لكي أرى هؤلاء الكبار من الجيران والأقارب وهم يجلسون على مقاعدنا ويرددون زرع...حصد بأصواتهم الثقيلة، والمدرس يحاول تقريب صور الحروف إلى أذهانهم قائلا: «الألف يشبه العصا واللام صنارة لصيد السمك أما الياء فبطة راقدة على بيضها»... كان الحماس للتعليم في ذلك الوقت جارفا والتسلح بالمعرفة هدفا قوميا يحلم به الجميع.

وفي كتابه «تحول السلطة» يحدثنا الكاتب الأميركي «ألفين توفلر»عن ماضي الآخر الغربي قائلا «في العالم القديم كان مجرد معرفة القراءة تعتبر إنجازا رائعا ولم يكن الأجداد أميين فقط وإنما كانوا أيضا لا يعرفون الأرقام والعمليات الحسابية، والنادرون منهم الذين كانوا قادرين على ذلك، كان ينظر إليهم على أنهم خطرون، وهناك نص مثير للدهشة للقديس «أوغسطين» يدعو فيه المسيحيين إلى تجنب الذين يعرفون الجمع والطرح لأن «هؤلاء عقدوا بكل تأكيد عهدا مع الشيطان لتعتيم الروح والاحتفاظ بالإنسان في قيود جهنم».

الخوف من المعرفة والارتياب في جدوى العلم وإعمال الذهن كانا سبب جمود الغرب في العصور الوسطى، لكن الزمن تكفل بإزاحة هذه المخاوف وراكم في الوقت نفسه الخبرات والمعارف المأخوذة من الصين والهند والعرب والتجار الفينيقيين، وكذلك من الغرب كما يقول الكاتب، لكي يتشكل في النهاية ذلك الميراث المعرفي الذي نستخدمه حاليا في جميع المجالات، ولكي تتحقق أيضا نبوءة السياسي البريطاني العتيد «ونستون تشرشل» الذي قال «إن إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات ذهنية».

علاقة المعرفة بالسلطة قديمة ومتجددة ويكفي أن نشير إلى سلطة ومكانة العراف والعارف في التراث العربي والعالمي، وإلى تميز العالم ورتبته الأسمى في الدين الإسلامي، وإلى الإبداعات والابتكارات التي غيرت صورة العالم، وقد انشغل «توفلر» في كتاباته بالتقدم المعرفي والتكنولوجي كأداة للتغيير وبناء عالم المستقبل، وهو في كتابه «تحول السلطة» الذي ترجمته ليني الريدي وأصدرته الهيئة العامة للكتاب قبل أعوام يحدثنا عن عالم ما بعد الصناعة، وعن القوى الجديدة التي ترسخ ثقافتها وسلطتها قائلا «لم يعد بطل زمننا هو العامل ذو السترة الزرقاء، ولا رجل المال، ولا المدير، ولكنه المبتكر الذي يجمع بين المعرفة والقدرة على الإبداع والقدرة على الفعل».

وهذا البطل هو ابن مناخ يسهم في تشكيله وتشجيعه وإطلاق طاقاته الذهنية وقدرته على الابتكار، وأهم ملامح هذا المناخ هي الاهتمام بالبحث العلمي والتكنولوجي وبالبرامج المعلوماتية المتطورة، وبالاتصالات فائقة التقدم، وبتنظيم المعرفة ذاتها.

ومما يحسب للكاتب نجاحه في شد علاقة المعرفة بالسلطة من الأفق الفلسفي إلى الشارع وتقلباته، ومن ثم إلى حياة الناس واهتماماتهم بالحديث عن الشركات الكبرى وانشغالها بالبحث العلمي والمنتج الذهني لتطوير منتجاتها وسعيها إلى احتكار المعرفة، وحجبها عن المنافسين والخصوم، الأمر الذي أدى إلى ظهور التجسس التنافسي، واندلاع حروب المعلومات «في كل مستوى من مستويات الحياة الاقتصادية، نجد أنفسنا في قلب حروب معلومات ومقاتلين يحاربون من أجل السيطرة على المورد الذي يتضح أنه الأكثر حسما في عصر السلطات الجديدة».

في الماضي كان على المعرفة أن تحالف القوة أو الثروة لكي تمد تأثيرها وتمارس سلطتها، لكنها لم تعد بحاجة إلى ذلك في الوقت الراهن، فالقوة العسكرية تعتمد الآن بالكامل على المعرفة المدمجة في الأسلحة الحديثة، كما أن الاقتصاد بدوره صار يعتمد تماما على المعرفة، وحركة تدفق المعلومات، هذا التحول جعل الاستثمار في التعليم والبحث العلمي وإنتاج المعرفة أكبر هموم الحالمين بالتقدم والمشاركة في بناء عالم الغد، لذلك ستظل قضايا تطوير التعليم مثارة بشكل دائم في أميركا وأوروبا واليابان... فتطوير التعليم يعني إضافات معرفية جديدة واكتساب سلطة أكبر وأقدر على التأثير والهيمنة.

هل يجوز لنا أن نسأل أين نحن من هذا كله؟

نحن في الماضي حيث السلطة لا تعني سوى القوة أو الثروة، والمعرفة بحاجة إلى حماية، والأمية بحاجة إلى من يسعى مخلصا للقضاء عليها.

* كاتب وشاعر مصري