ركز اهتماماته الفكرية على البحث عن كيفية بناء نظرية سياسية إسلامية قادرة على التعاطي مع الواقع المعاصر، في ظل طوفان العولمة التي تسعى إلى إلغاء الخصوصيات الثقافية والحضارية للعالم الثالث عموماً وأمة العروبة والإسلام خصوصاً، إنه د. سيف الدين عبد الفتاح (أستاذ النظرية السياسية والفكر الإسلامي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة). التقته «الجريدة» في الحوار التالي.
كيف تنظر إلى واقع المسلمين اليوم؟ هل هم قادرون على مواجهة طوفان العولمة؟توضح الظروف الدولية الراهنة التراجع الحضاري والمعرفي للعالم الإسلامي، والذي أدى بدوره إلى وقوعه فريسة براثن القوى الكبرى في العالم، في ظل عجز الإرادة الإسلامية سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وقد شجع العجز بعض الجهات على التطاول على المقدسات والرموز الإسلامية، وفي مقدمة ذلك الإساءة الغربية للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم). على الرغم من ذلك كله، يجب عدم الاستسلام, بل يجب أن تكون الأوضاع الراهنة هي الحافز للتغلب على العقبات ووجود العقول المسلمة القادرة على تحرير الأمة من أغلال المتربصين بها، وأن من واجب العلماء والدعاة الإسهام بفاعلية لإنقاذ الأمة وتسخير الإمكانات المتاحة لتغيير واقعها المظلم، لذا يجدر العمل على تكوين لوبي عربي إسلامي عالمي لمقاومة ومواجهة ظواهر العولمة الغربية وتياراتها الوافدة، المستهدفة للقضاء على هويات وثقافات الشعوب، خصوصاً الشعوب العربية والإسلامية، ويجب العمل على إخراج أمة الإسلام من بؤرة التخلف والتراجع الحضاري الذي تعيشه منذ قرون عدة، والأخذ بمعطيات التقدم والتعاطي مع الأمم الأخرى اقتصادياً وسياسياً وثقافياً فيما لا يتعدى حدود تعاليم الشريعة، لأن مشكلات العالم الإسلامي متشعبة وخطيرة، ما يفرض ضرورة وجود حلول جديدة تتناسب مع العولمة القادمة بكل روافدها والتي تسعى الى إذابة الهوية الثقافية والمنظومة القيمية والدينية للأمة الإسلامية. ينبئ التخلف المخيف الذي تعيشه الأمة بكارثة كبرى, خصوصاً في ظل ضيق مساحات الحرية التي تعد مشكلة كبرى في العالم الإسلامي حتى الآن، وقد غلف الغرب تلك الحريات بطباع غير التي عرفها المسلمون من خلال تعاليم دينهم وصدَّروها من خلال ثقافاتهم إلى العالم الإسلامي، مما أدى إلى وجود مناخ كبير مناصر لتلك الحرية الغربية بما تحمله من تناقضات.فرضت العولمة نفسها على الساحة الإنسانية وتغلغلت في المجالات كافة، ما الموقف الصحيح تجاهها؟العولمة بشرية من وضع العقل البشري وهي قابلة للخطأ والصواب، وقد أُريدَ منها جعل النظم البشرية عالمية وإكساب بعض الأمور الإنسانية طابع العالمية, وذلك بالتأثير في الثقافات والجوانب الاجتماعية وأنماط المعيشة، ومن ملامحها اتساع دائرة الاستثمارات والأسواق المفتوحة، وتهميش بعض الهويات واللغات أو تذويبها في هوية واحدة. العولمة وإن كان ظاهرها التقدم فإن باطنها إحداث شروخ كبيرة في حياة الدول اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وهي كنظام عالمي لن يكون أحد بعيداً عنه وبالتالي فمن واجبنا أن نعمل على تخفيف حدَّته وردّ وطأته وتجنب الخسائر المترتبة عليه، وذلك بأن نأخذ ما يفيد ونطرح ما لا يفيد وينسجم مع عقيدتنا وهويتنا، لأن للأمة الإسلامية شخصيتها المستقلة التي لا تذوب مع غيرها، بل تحافظ على شخصيتها وهويتها، وهذا ما أرساه الرسول (صلعم) من مبادئ حين قال: «إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، لكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا».هل ثمة بديل يمكن أن يقدمه الإسلام كمشروع حضاري ونظام عالمي؟للإسلام مشروعه العالمي الحضاري الديني الثقافي، ويتمثل من أول عهد الإسلام ومنذ فجره الأول في العقيدة التي توحد الأمة، وتجمعها بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر والقدر، وبالتشريع الإسلامي، وما جاء به من تكاليف وعبادات ومعاملات وأحكام وأخلاق، ومبادئ تحرر الفرد والمجتمع من الجهل والفقر والخوف والوهم، ومن الخوف على الحياة والرزق، لأن واهب الحياة والرازق هو الله سبحانه وتعالى، وتعمل تلك المبادئ على حماية الثوابت وترسيخ العقيدة والهوية الإسلامية والثقافية والحضارية، وأصول المشروع الإسلامي مصونة من أي انحراف لأنها أخذت منطلقاتها من كتاب الله وسنة رسوله (صلعم) الذي قال «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي». يتميز المشروع الإسلامي بالمرونة والتعاون والتفاعل في كل جوانبه، وهو ليس أمراً نظرياً بل هو عملي تطبيقي، يجعل من العبادات، مثل الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج التي هي أركان الإسلام وعباداته، تطبيقاً عملياً وتدريباً مستمراً على الطاعة وتوحيد الصفوف وجمعها، كذلك يتميز بالوسطية، فلا إفراط ولا تفريط، وبأصالته وسماحته مع اعتداله وحرصه على إقامة العدل ونصرة الحق وتوحيد الصف، ولعل آليات المشروع في تناميها ووحدتها بجميع المنظمات والمؤسسات والجامعات مع منظمة المؤتمر الإسلامي لعلها تكون من أبرز الدوافع لصياغة الاستراتيجية الحضارية للعالم الإسلامي. العمل الآن قائم على إقصاء عوامل التثبيط والتبعية والحرص على النهوض واستقلال الشخصية مع التعامل مع الغير والتفاعل مع سائر الثقافات والحضارات.«صراع الحضارات» مِن المصطلحات التي فرضت نفسها أيضاً على الساحة الفكرية المعاصرة, هل العلاقة صراع أم حوار؟من أبرز تحديات العولمة وأخطرها فكرة «الصراع الحضاري» التي تعتبر نقيضاً للحوار الحضاري في الإسلام، فالصراع ليس فيه مهادنة ولا مسالمة بل هو العنف والصدام وليس ذلك من المشروع الإسلامي ولا من حضارته الواعدة التي تقوم على التعاون والبر والتقوى وعلى الحوار الحضاري الذي يتسم بالاعتدال والوسطية والتسامح. يفتح الحوار الحضاري في الإسلام الباب أمام الجميع, لأنه يرى أن الإنسانية في الإسلام ترجع إلى أصل واحد.هل ينصب مكمن الخطورة في العولمة على جوانبها الاقتصادية والاجتماعية؟ أم أنها تمثل خطراً شاملاً على أمة الإسلام؟لا يعد النظام العالمي الأحادي الغربي غزواً اقتصاديا واجتماعياً فحسب لدول العالم الإسلامي، بل إن العولمة المؤسسة لذلك النظام بشكلها الراهن ديناصور ثقافي غربي أعدّ وجهّز لالتهام خصوصية العالم الإسلامي، ويسعى إلى ترسيخ التبعية الكاملة وإزالة المقومات الشخصية للدول الإسلامية، واقتداء تلك الدول بالنموذج الأميركي المطروح على المستوى الاقتصادي والثقافي والاجتماعي ونبذ نماذجها القومية، واختراق القوميات ونسف الخصوصيات الثقافية والاجتماعية التي ورثتها الدول منذ أجيال بعيدة، وفرض حلول مستوردة من الولايات المتحدة لحل مشاكل التنمية والتطوير للدول النامية وخاصة الدول الإسلامية. استمرار الدول الغربية في مواصلة تهديد هويات الدول النامية والتقليل من شأن خصوصياتها الثقافية والاجتماعية بزعم تخلفها عن ركب الحضارة المادية الغربية المعاصرة، والقول بأن التبعية الثقافية العمياء لنموذج الغرب هي الحل الأمثل لمشكلات التخلف في دول العالم الثالث، ذلك كله سيؤدي إلى حث الدول على مقاومة العولمة والتشكيك في نواياها وتجاهلها، ويساعد في وجود مفكري وعلماء يدعون إلى رؤية معتدلة تدعو الى التفاعل الثقافي الإيجابي في ظل العولمة بمفهومها المعتدل الذي لا يتناقض مع التعددية الثقافية ولا يتعارض مع الحفاظ على الهوية القومية للشعوب التي تتعامل معها، مع استمرار مقاومة الثقافات التي تهدف إلى الهيمنة على الثقافة العربية الإسلامية واختراق خصوصيات عقيدة الأمة وتراثها وتغريب هوياتها الوطنية الثقافية والتقليل من شأن إنجازاتها التاريخية الحضارية بغرض إحلال الثقافة الغربية مكانها.كيف يمكن للثقافة العربية والإسلامية إقصاء الوجه القبيح للعولمة والتعامل مع المفيد فيها والمعتدل؟لا يمكن للثقافة العربية الإسلامية أن تصمد أمام التيار الجارف لسيطرة العولمة الثقافية والهيمنة الغربية خلال المستقبل القريب، إلا إذا وضع المفكرون العرب والمسلمون، بدعم مخلص من حكوماتهم ومؤسساتهم الثقافية، استراتيجية موحدة هدفها تحرير الثقافة العربية الإسلامية من القوالب التقليدية التي ورثتها طوال القرون العشرة الماضية من تاريخها الطويل والتي يغلب عليها التبعية والنقل والتكرار، وإحياء التراث الفكري العربي والإسلامي وتنقيته من الشوائب الدخيلة عليه والتي عملت على إضعافه وتأخره، وإعادة ترتيبه بما يتفق مع تطور العصر وأحداثه ولا يمكن أن يتحقق ذلك كله إلا بإعادة بناء الفكر الإسلامي وربط ماضيه بحاضره فى اتجاه المستقبل وتحدياته، والدعوة إلى ديموقراطية الثقافة العربية وممارسة حرية التعبير عن مختلف العلوم والآداب، وكذلك وضع استراتيجية مستقبلية لرؤية إبداعية للثقافة العربية الإسلامية قادرة على تكيفها مع العولمة الثقافية التي تصنعها الدول الغربية.من وجهة نظرك، كيف يمكن الاستفادة من شريعة الإسلام في النهوض بواقع الأمة؟للأسف الشديد، نحن المسلمين ما زلنا متخلفين تخلفاً كبيراً في هذا السياق، ولا بد من أن نؤكد أن العناصر التي تتعلق بفقه الواقع ليست مجرد شعار يرفع ونتحدث فيه عن فقه الواقع، فالفقه له أصول ووسائل وآليات ومناهج، ومن هنا وجب علينا أن نتعرف الى كيفية بناء أصول منهجية للتعامل مع الواقع المتداخل جداً، ولم يعد الواقع الراهن ملكاً لهؤلاء الذين يؤمنون بشريعة الإسلام، بل تفلت من أيدينا والشريعة أيضاً تفلتت من بين كثير ممن يؤمنون بها. لذا استرداد المسلمين لشريعتهم مسألة غاية في الأهمية في إطار «فقه الواقع»، وهو ما أكد أهميته الإمام ابن القيم قديماً في قوله «لا بد من أن نعطي الواجب حقه من الواقع ونعطي الواقع حقه من الواجب». واجب علينا أن نترجم تلك المقولة الذهبية للإمام ابن القيم إلى عمل يتعلق بفقه الواقع وبفقه التنزيل, لأن فقه الواقع لا بد من أن يتبعه فقه تنزيل، وهو فقه رابع لا بد من أن يرتبط بالفقه الذي يتعلق بالواقع، وفي فقه التنزيل تأتي أنواع من الفقه كثيرة جداً وممتدة، يجب الربط فيما بينها كالفقه الذي يتعلق بالأولويات وبالموازنات وبالتزاحم، والفقه الذي يتعلق بالأحوال والمآلات.اليوم وفي ظل الأحادية القطبية العالمية، هل تعتقد أن القيم السياسية الإسلامية قد ضاعت؟ضاعت تلك القيم قبل ذلك بكثير، ولم يكن ثمة ارتباط سببي بين ضياعها وبين الأحادية القطبية في العالم، وإن كان انفراد قطب أوحد بالعالم يمثل أعلى درجات ضياع القيم السياسية والإنسانية، لأن ذلك الأمر ضد السننن فالله عز وجل خلق ذلك الكون متعدداً مختلفاً متنوعاً، وكان الاختلاف سنة كونية وإلهية، ومن هذا القبيل فإن ذلك التفرد والانفراد لقطب أوحد بأمور الدنيا هما من الأمور المضادة للسنن الفطرية والإنسانية, وأنها لا يمكن أن تستمر على حالها، وإن وجود دولة «قطب واحد» لها سياسة كونية، وهي الولايات المتحدة الأميركية، دليل على معاندة السنن وإنك لن تجد لسنة الله تبديلا، لأن المضاد للسنن يؤدي إلى انحراف عمران البشرية وإلى هذه الانحرافات التي نراها من كل صوب وحدب وفي كل قضية من القضايا المختلفة. من هنا نستطيع القول إن ضياع القيم السياسية الإسلامية أو تواريها نتج عبر ثلاث مراحل: مرحلة الضعف الإسلامي ومرحلة الهيمنة الاستعمارية والمرحلة التي تتعلق بتفرد القطب الأوحد بالعالم، خصوصاً العالم الإسلامي، وفي كل مرة كانت القيم تنحدر درجة مما أدى إلى وضعها المتردي راهناً، فلا نستطيع أن نعفي مسار الحضارة الإسلامية من الضعف الذي أتى على القيم, ولا شك في أن القيم السياسية كانت موجودة، لكن هؤلاء الذين يؤمنون بها أو يمارسون من خلالها قد انحرفوا بها وفي ممارستها، لذا لا بد من أن نضع بياناً يتعلق بتلك المرحلة، مرحلة الضعف الإسلامي، ثم مرحلة الاستعمار وبروز الفكر الوافد الذي وجد قلباً خالياً فتمكن، كذلك سيكون الوضع الراهن الذي تسوده الانفرادية الأميركية بالعالم عمره قصيراً في عملية الحضارات.تجديد الخطاب الدينيلك رؤية خاصة في عملية تجديد الخطاب الديني اصطبغت بالمفهوم الديني والسياسي في الوقت نفسه, هل ترى أن ما يحدث على الساحة من محاولات للتجديد يحقق الهدف المنشود؟للأسف الخطاب الديني أصبحت له خرائط متعددة ومتنوعة، وأنا من أنصار عدم نفي جهة من جهات الخطاب, لأن لكل جهة المقام المخصوص لها وجهة التأثير أيضاً، وفي قضية تجديد الخطاب الديني يتعلق الأمر فيها بالتجديد في الأداء والمضمون والهدف، وهي عملية مرتبط بعضها ارتباطاً وثيقاً ببعض, لا يمكن الاستغناء عن أحدها. كذلك يجب معرفة الدواعي التي تجعلنا نتبنى عملية التجديد وليست الدواعي هي ما يطالب به الأميركيون من أن الخطاب أدى إلى إنشاء جماعات متطرفة أو إرهابية أو غير ذلك من الأمور، فلا بد من أن نجدد الخطاب الديني على أصول تتعلق بالحاجات والضرورات المطلوبة للأمة، وليس من ضروراتها أن تلحق عالم الضرورات والحاجات الخاصة بها بما يتعلق بالولايات المتحدة ولا بالحضارة الغربية، وقد وضعت دراسة في هذا الإطار بعنوان «تجديد الخطاب الديني.. من الحملة الفرنسية إلى الحملة الأميركية» لأن أمة الإسلام تطالب دائماً بالتجديد تحت ضغط الحملات العسكرية، والمسألة ليست على هذا النحو، فالتجديد هو مطلب شرعي وبُنيوي يتعلق بتوارد الأحداث ووقوع النوازل التي تتعلق بالأمة. مطلوب العمل على إيجاد لوبي عربي إسلامي قادر على مواجهة العولمة.
توابل
د. سيف الدين عبد الفتاح: العولمة ديناصور ثقافي غربي مهمَّته التهام هويَّة العالم الإسلامي!
07-09-2008