الأقربون قبل الأبعدين لا يتوقعون للرئيس ميشال سليمان ولاية يعمّ فيها السلام والرخاء والاستقرار. ذلك أن «المكتوب يُقرأ ُ من عنوانه» كما يقول المثل الشائع، ولو كان الأمر عكس ذلك لشهدنا ولادة طبيعية سهلة لحكومة الوحدة الوطنية التي أقرّها مؤتمر المصالحة في الطائف، لكن الملفت أن صبر الرئيس سليمان بدأ ينفد، ولكن ماذا باستطاعته أن يفعل طالما أن رئاسة الجمهورية، في ظل اتفاق الطائف باقية من دون أضراس وأنياب؟
بعد أن تأكد، بما لا يقبل الشك، إصرار الرئيس ميشال سليمان على إعادة إلياس المر إلى وزارة الدفاع بالرغم من الحملات الخجولة التي انطلقت ضد هذه العودة؛ ولأن اللبنانيين على اختلاف مشاربهم السياسية يعيشون اليوم حالة مرَضية حادة يطلق عليها علماء النفس اسم «بارانويا» أو مرض الشك والريبة في كل شيء، هذه الحالة الحادة تزيد من كم الإيمان الأعمى بأن وراء كل شيء مؤامرة ما، لذلك فإن أحاديث الوسط السياسي والشعبي تتناقل قصصاً وروايات وشائعات، بعضها حقيقي وبعضها الآخر من نسج خيال المرض، حول علاقة الرئيس بوزير دفاعه المستقيل، أو بالأحرى بأبيه الوزير السابق ميشال المر.السؤال الذي يتوقف عنده الجميع هو التالي: هل علاقة الرئيس بالأب ومن ثم الابن لها أبعاد استراتيجية، أم أنها مجرد علاقة إنسانية قديمة العهد تطورت خلال الـ15 سنة الماضية إلى أواصر صداقة متينة تحكمها أصول الوفاء المتبادل؟قد لا يستأهل هذا الموضوع الكتابة عنه لو لم يصبح عقدة العقد في تشكيل أول حكومة في عهد سليمان، أو بالأحرى بات محوراً من المحاور الأساسية في تقرير مستقبل البلد.في بداية التسعينيات، تسلّم ميشال المر وزارة الداخلية كوزير في أول حكومة ما بعد اتفاق الطائف، وقتئذ كان ميشال سليمان واحداً من الضباط المرموقين، وقد تسلَّم بدوره إدارة جهاز المخابرات العسكرية في منطقة جبل لبنان، والمعروف عن المر الأب أنه «حيوان سياسي» بالسليقة، ولأنه من أبناء المتن الشمالي وطموحه أن يصبح زعيماً لهذه المنطقة المهمة في لبنان، كان لابد أن يلتقي، كوزير للداخلية يتعاطى شؤون الأمن المدني، مع المسؤول العسكري لهذه المنطقة، ونشأت صداقة بين الرجلين سعى المر إلى تكريسها وتعميقها إذ أدرك بحسه السياسي أن ميشال سليمان له «مستقبل رئاسي» عندما تسنح الظروف، وأراد المر أن يخلق هذه الظروف لا أن ينتظرها لتقدم نفسها إليه، خصوصاً بعد تعيين الرئيس السابق إميل لحود قائداً للجيش، وبالتالي نُقِل ميشال سليمان من مخابرات المتن إلى رئاسة المخابرات العسكرية العامة.ويقال إن المر فاتح سليمان بخطة ترتيب مستقبله العسكري ومن ثم السياسي في ذلك الوقت، أي قبل أكثر من 15 سنة من انتخاب سليمان رئيساً للجمهورية، ووافق سليمان على خطة المر الذي أصبح نجماً ساطعاً شديد النور في سماء صناعة القرار اللبناني الداخلي، فهو من جهة يملك ناصية «الأذن السورية الكبرى» ويحوز على ثقة صاحبها الرئيس حافظ الأسد الذي اعتبر المر الأب امتداداً للتعاون الاستراتيجي بين الطائفتين الأرثوذكسية والعلوية في سورية، والمعروف، ولكن على نطاق ضيق، أن هذه العلاقة بين الطائفتين بدأت بعد الحركة التصحيحية في سورية التي قادها الأسد في عام 1970. ومن خلال هذه العلاقة كان القرار الأرثوذكسي في لبنان ينبع من دمشق مما زاد من قيمة وأهمية ميشال المر. ومن ناحية أخرى فإن مصاهرة المر مع إميل لحود قائد الجيش آنذاك، إذ تزوجت ابنته من ابن المر البكر إلياس، صاحب الموضوع الساخن اليوم، أضافت إلى نفوذ المر الأب.يقول ميشال المر في مجالسه الخاصة جداً، إنه منذ ذلك الوقت كان يُهيئ ميشال سليمان لتولي الرئاسة، وذلك بعد أن أوصلت الظروف السياسية السورية قائد الجيش آنذاك إميل لحود إلى رئاسة الجمهورية، وعندما انتقل لحود من اليرزة إلى بعبدا، ضرب المر «ضربته» الكبرى إذ لعب دوراً بارزاً في «نقل» ميشال سليمان من قيادة المخابرات العسكرية إلى قيادة الجيش برضا الفريقين اللذين كانا يصنعان الملوك آنذاك: حافظ الأسد وإميل لحود، ولم يبقَ في خطة المر- سليمان سوى خطوة واحدة عمل الاثنان على السعي إلى تحقيقها بصبر وإناة طوال فترة تسع سنوات هي الفترة التي قضاها لحود في رئاسة الجمهورية.وبالرغم من ارتباك الخطة بعد مقتل رفيق الحريري، وطلاق إلياس المر من ابنة إميل لحود، وخروج السوريين من لبنان، فإن ذلك لم يمنع من متابعة تنفيذ الخطوة الأخيرة نحو رئاسة الجمهورية بأسلوب جديد وحسب المعطيات التي وُجدت على الأرض، ولعب كل فريق دوره ببراعة، ميشال المر وضع رجلاً في «بور» الموالاة والأخرى في «فلاحة» المعارضة، واستخدم نفوذه الدولي لتلميع صورة ميشال سليمان، وخصوصاً في المجالين الفرنسي والأميركي اللذين أصبحا بعد الخروج السوري من فئة صانعي «ملوك» لبنان، بينما حرص ميشال سليمان في قيادة الجيش أن يبقى على مسافة واحدة بين القوى المتصارعة... هذه المسافة وضعها ميشال سليمان بدقة وبمقياس السنتيمتر الواحد.ودارت الأيام الحبلى بالإشكالات الأمنية التي زادت من حظوظ ميشال سليمان كمنقذ للوضع المتفجر بعد أن تهاوى المرشحون الباقون للرئاسة تحت وطأة الاغتيالات والاجتياحات التي شهدتها العاصمة وبقية المناطق اللبنانية، وانعقد مؤتمر الدوحة وما تبعه من تنفيذ آخر بند من الخطة وانتخب ميشال سليمان بـ118 صوتاً من النواب، وهو العدد ذاته الذي انتخب إميل لحود قبل تسع سنوات.هذه التفاصيل لم تكن مهمة لولا ارتباطها باستراتيجية العهد السليماني الجديد على الصعيد الدولي في ما يتعلق بالحرب على «حزب الله» وسلاحه، فالاعتقاد السائد لدى بعضهم أن عودة إلياس المر إلى وزارة الدفاع يعني «مؤامرة» على الحزب وسلاحه، وهذا قول يحمل الكثير من المغالاة، إن لم نقل نتيجة طبيعية لاشتداد مرض «البرانويا»، فالرئيس سليمان، منذ وصوله إلى قصر بعبدا لم يترك مناسبة تمرّ من دون التأكيد على شرعية المقاومة، وعلى قدرتها في مساعدة الدولة اللبنانية في ردع العدو الإسرائيلي، وبالتالي تمسكه بالمقاومة، وهو صادق في ما يقول، لأن تاريخ الرجل خالٍ من الألاعيب السياسية، وما تحتويه من نفاق والقفز على حبال عدة، حتى لو كان يرغب في القيام بمثل هذه الألاعيب، فإنه غير مؤهل لها نتيجة تربيته البيئية والعسكرية طيلة فترة حياته، يضاف إلى ذلك أنه «قروي» الميول، ويؤمن، بعكس سكان المدن، بضرورة التمسك بفضائل التربية القروية وعلى رأسها فضيلة الوفاء، فإذا قال ميشال سليمان لمن يريد أن يسمع ويفهم أن تمسكه بابن صديقه ميشال المر يرجع إلى عنصر الوفاء الذي بات مفقوداً في عالمنا الحديث فصدقوه، ثم ان عودة المر الابن إلى وزارة الدفاع ستأتي من حساب رصيده الشخصي الذي أقرّه «مؤتمر الدوحة»، فهو المسؤول الأول والأخير عن تصرفات وزيره، وهذا الواقع يجب أن يكون عنصر اطمئنان لا عنصر تشكيك، يضاف إلى هذا كله أن رضوخه للضغوط لإبعاد ابن صديقه عن وزارة الدفاع يعني بالعربي الفصيح أنه رئيس ضعيف، وهذا الضعف ستستغله «أسماك القرش» من السياسيين على اختلافهم لإجهاض عهده في بداية ولادته، تماماً كما حدث لإميل لحود في بداية ولايته عندما خسر معركة المواجهة الأولى مع أسماك القرش هذه، والنتيجة معروفة ولا حاجة إلى تكرار تفاصيلها.إذا قال ميشال سليمان، إنه لا وجود لاستراتيجية بعيدة المدى بشأن تمسكه بابن المر، وإن الأمر لا يخرج عن إطار الوفاء الشخصي... فصدقوه!.* كاتب لبناني
مقالات
إذا قال ميشال سليمان... فصدقوه
02-07-2008