حتى نغير ما بأنفسنا!
مع كل تشكيل وزاري جديد، نتصور بسذاجة أن كل مشاكلنا المزمنة كمواطنين ستنتهي، وأن الحكومة الجديدة أفضل من سابقاتها في كل شيء، وأنها بعون الله وببركة الدستور، ستبني ما انهدم وتصلح الأمور، وأنها بهمة الرجال المخلصين ستقضي على خراب الذمم وتصعد بنا نحو القمم، وتخلصنا من كل الفساد المالي والإداري الذي استشرى في العهود السابقة، سوف يقضي وزير التجارة مشكلة الغلاء، ويحد وزير الداخلية من تفاقم المشكلة المرورية، وسوف تجد وزيرة الإسكان الحلول الناجعة لمشكلة الإسكان، وسيطبق وزير الشؤون قوانين الرياضة ويقضي على تجارة الإقامات، وتنتهي مشكلة الكهرباء على يد وزير الطاقة، وستحسن وزيرة التربية من مستوى التعليم المتهاوي، وسوف يكون الوضع الصحي أفضل في عهد وزير الصحة الجديد... إلى آخر قائمة أحلامنا وآمالنا الكبيرة، نحن المتفائلين دائما بأي حكومة جديدة رغم إخفاقات سابقاتها المتتالية، دون سبب منطقي أو واقعي لهذا التفاؤل!ثم تمر الأيام والشهور بطيئة متثاقلة كالدهور، لتظهر لنا الحقيقة ساطعة جلية كشمس النهار، ويخيب ظننا كالعادة في أصحاب السعادة، فلا شيء تغير أو تبدل في الأرجاء، سوى أسماء ووجوه السادة الوزراء، أما التصريحات فهي هي، وأما الوعود فهي هي، وأما المنجزات فأعجاز نخل خاوية، فتكثر الشكوى ويتذمر الجميع، ويحدث انفصال غريب بين الكلمات والأفعال، فالناس بمعاناتهم يجأرون، والكتّاب بزواياهم يكتبون، وأهل الدواوين في دواوينهم «يتحلطمون»، لكن الحكومة الرشيدة التي من نوعها فريدة، في واد وما يعانيه الناس في واد آخر، فكل مشكلة تتفاقم أمامها تتبع معها السياسة المعتادة وقد أصبحت لها عادة، «طنش تعش تنتعش»، وقد انتعش بعض القوم و«ابتلش» الأغلبية، وبقيت الحال على ما هي عليه، فقال بعض الحكماء: عليكم بالصبر والدعاء، فإنه يرد القضاء، ويكشف الضر والبلاء، فتتالت دعواتنا على من كان السبب في همنا والتعب، لكن الله لم يستجب لدعائنا، ولم يصلح أمرنا، فاستمر وضعنا، كما كان وأسوأ!
ورحنا ننظر إلى وجوه السادة النواب، وقدرنا أنهم منقذونا من المصاب، فاستلقت الأقدار على قفاها ضاحكة من جهلنا وسخافة تقديرنا، فالقوم لاهون بما هو أكبر وأهم وأعظم، فمنهم مشغول بتجارة الإقامات، ومنهم مهموم بالظواهر والسلبيات، ومنهم مراقب «للبوس» في الحفلات، ومنهم ساع وداع لإجازة الفرعيات، ومنهم محضِّر لتشريع الديوانيات، وآخرون منعمون في تبات ونبات، ينتظرون حل المجلس وعودة الانتخابات! ويخدعنا وهْمُنا، مصوراً لنا أن أصل البلاء في السادة الوزراء ونظرائهم الأعضاء، وأنهم سبب ما نحن فيه وما وصلت حالنا إليه، لتتابع الأصوات قائلة «وزراء فاشلون»... «نواب فاسدون»... «حكومة سيئة»... «حلوا المجلس»... ويحسب المطالبون أن تغيير وجوه الوزراء وأسماء النواب سيبدل الأمور ويحسن الأوضاع، لتعم البلاد بعدها الأفراح والليالي الملاح، وقد نسينا أو تناسينا أن المجلس والحكومة هما حصاد ما زرعنا ونتاج ما صنعنا قبل أشهر من الآن، حين انتصرت فزعتنا القبلية وتعصبنا الطائفي وتحيزنا الفئوي على الرغبة في الإصلاح والبناء، فنحن، بصراحة، ولا أحد سوانا المشكلة الحقيقية والفعلية فيما نحن فيه وما نعانيه، وما فشل الوزراء وفساد النواب الذي نشتكي منه إلا عرض من أعراض مجتمعنا المريض بآفة المصالح الشخصية والفئوية والقبلية والطائفية، وما أزمتنا اليوم في واقع الأمر إلا أزمة ضمائر وأهواء تتعارض مع الحس الوطني والوازع الديني، بل السلوك الإنساني المتحضر في بعض الأحيان!هل تساءلتم مرة كيف تجدون أنفسكم مرارا وتكرارا في هذا المأزق؟! وكيف تحصلون على حكومات دون مستوى الطموح؟! إليكم ما يحدث على الأرجح: سمو رئيس الوزراء يتابع الانتخابات البرلمانية مترقبا النتائج النهائية ليقرر على أساسها أسماء الوزراء للحكومة الجديدة، فإن كان الناخبون جادين فيما اختاروا من النواب وفقا للكفاءة والنزاهة والمقدرة (وهو ما لا يقومون به عادة) كان اختياره لوزرائه بما يتناسب مع قوة وكفاءة المجلس النيابي، لأنه سيحرص حينها على اختيار عناصر قوية قادرة على تحمل أعباء ومسؤوليات الوزارة، أما إن جاء اختيار الناخبين للنواب على أساس فئوي قبلي طائفي دون أي اعتبار آخر (وهو ما يقومون به عادة) كان اختياره لوزرائه موافقا لما اختاره الناس ولما يريدونه، ومبنياً على المحاصصة والمفاصلة، ليتم بعدها توزيع «الكيكة الوزارية» على كل فئة وقبيلة وطائفة بحسب حجم تمثيلها النيابي، وتظهر إلى الوجود حكومة لا تناسق أو توافق أو تكافؤ بين أعضائها، وبأداء دون مستوى الطموح بكثير، لنتابع بعدها الحلقة رقم 9854 من مسلسل الصراع والتأزيم بين المجلس والحكومة، وليتنادى بعض الباحثين عن عذر والمتصيدين في الماء العكر بأن «الحل في الحل»!لكن الحقيقة التي لا يريد أن يعترف بها أحد هي أن علتنا كانت وستبقى «منّا وفينا»، ليست في المجلس وليست في الحكومة، فما نجنيه اليوم هو ثمار ما زرعناه يوم الانتخابات البرلمانية، حين غلّبنا مصالحنا الشخصية على المصلحة الوطنية، ولن يتغير من أمرنا شيء ما لم نغير ما بأنفسنا، فهل نحن فاعلون؟!