لعل ما فعله «حزب الله» وحلفاؤه بحق وسائل الإعلام التابعة لـ«تيار المستقبل»، في لبنان، في التاسع من مايو الجاري، يفتح الكلام عن واقع المنظومة الإعلامية اللبنانية، سواء في أوقات السلم الأهلي، أو عند اشتعال المواجهات بين الفرقاء، في هذا البلد، الذي لم يعرف هدوءاً أو استقراراً، منذ اندلاع الحرب الأهلية السيئة الذكر، في أواسط السبعينيات من القرن الفائت.

Ad

ولا شك أنه لا يمكن، بأي حال من الأحوال، ومهما كان المنظور الذي سيقارب تلك الأحداث متحلياً بالتوازن أو الحياد بين الفريقين الرئيسين المتنازعين، بما يحملان من حجج وذرائع، سوى أن يدين المرء بشدة الإجراءات المسلحة والعنفية بحق وسائل إعلام «المستقبل»، وأي وسائل إعلام أخرى، سواء في أزمنة السلم أو الحرب.

فليس أبشع من اقتحام وسيلة إعلام، أو حرقها أو تدميرها، أو استهداف حياة إعلامي، فضلاً عن منعه من ممارسة دوره في تزويد الجمهور بما هو حق له من أخبار وتقارير في أي حال وتحت أي ظروف.

وما فعلته ميليشيات المعارضة اللبنانية في هذا الصدد، لا شك، سيسجل نقطة سوداء شديدة الوضوح في سجل ممارساتها، ومهما كانت الذرائع التي استندت إليها أو روجت لها في تفسيرها لهذا السلوك المشين.

لكن ما حدث، على استحقاقه الإدانة والشجب الشديدين، لا يمنع أبداً النظر إلى حال المنظومة الإعلامية اللبنانية، التي كانت، ولاتزال، مضرباً للأمثال في انفتاحها وتنوعها وتقدمها التقني والإجرائي وثرائها المهني من جهة، وفي انحيازاتها وتجييرها الاعتبارات الأخلاقية والقيمية لمصلحة التجاذبات والصراعات السياسية من جهة أخرى.

ومن ذلك أن المواطن اللبناني الذي اعتمد على وسيلة إعلامية واحدة في التزود بالأخبار والتقارير عن الأوضاع في بلاده أو الإقليم أو العالم، على مدى العقود الثلاثة الماضية، لاشك بات منعزلاً عن الأحداث، غير قادر على معرفة الحقائق، متمترس في خنادق غل وحقد حيال خصومه السياسيين، وأسيراً لتفسيرات وانطباعات غائمة عن القوى الفاعلة في الساحتين الإقليمية والعالمية.

فقد تحولت وسائل الإعلام اللبنانية معظمها، وأياً كان نوعها؛ سواء مسموعة أو مرئية أو مكتوبة أو إلكترونية، أدوات في صراع مرير، استخدمت فيه الأسلحة والأفعال السياسية الحادة والأخبار والمقالات على قدم المساواة.

لقد ارتضت وسائل الإعلام اللبنانية معظمها أن تكون تعبيرات مباشرة، تمارس كل أنواع الانحياز، لمصلحة المالكين والناشرين، الذين هم إما أطراف سياسية فاعلة على الأرض مباشرة داخل البلد، أو أطراف إقليمية ودولية ذات مصالح وأدوات للتأثير في الداخل اللبناني، رأت أن شراء تعبير إعلامي، أو جزء منه، أمر حيوي لتحقيق مشروعاتها وإدارة مصالحها.

وبات المواطن اللبناني، بصرف النظر عن كونه منخرطاً في فريق أو متعاطف مع تيار، محروماً من حقه في معرفة ما يجري بأكبر قدر من الدقة ممكن، فضلاً عن افتقاده رسالة إعلامية تمتاز بالإحاطة والشمول والتوازن.

وكان إعلاميون عرب وأجانب كثيرون يتندرون بـ«ابتكارات» لبنانية في هذا الصدد مبدعة إلى حد كبير؛ ومنها تحويل المانشيت رأياً في أغلب الصحف، واستهلال النشرة الخبرية في التلفزيون أو الإذاعة بـ«افتتاحية»، تصوغ الحقائق والأخبار وفق اعتبارات مصلحية، تعكس رؤى المالكين والناشرين وأصحاب الحصص في المحطة تجاه الأوضاع السياسية.

وأصبح كل نص أو رسالة تبثها وسيلة إعلامية لبنانية ضمن مواد الخبر، المفترض فيها الحياد والدقة والتوازن سلفاً، أنموذجاً يدرس في أكاديميات الإعلام ومعاهد التدريب، لما يحويه من صور الافتئات والنيل من قيم العمل الصحافي الرشيد.

وأصبحت الرسالة الإعلامية في هذا المعرض مليئة بأنماط ضارة؛ مثل تقديم الرأي في صورة خبر، والحذف الانتقائي، واستخدام الكلمات ذات الحمولة، والتنميط بنسب الصفات والأدوار للأطراف وفق موقف الوسيلة ورؤيتها، وتقديم الحقائق بغرض الوصول إلى الاستنتاج الزائف، والاختيار السيئ للمصادر، والانتخاب غير الكفء للحجج، وإهدار التوازن، وإغفال الخلفية والسياق، وتشويه الحقائق، والبعد عن الدقة والإحاطة والشمول.

وظل كثير من الإعلاميين اللبنانيين غير قادرين على العمل وفق المعايير المهنية والقيمية والأخلاقية والاحترافية في بلدهم، فيما هم يمنحون خبراتهم النادرة في هذا المجال، ومهاراتهم، التي لا يُختلف عليها، لمنظومات إعلامية أخرى في الخليج أو أوروبا.

وكان هؤلاء الإعلاميون المميزون مضطرين في كل الأحوال إلى الخروج من المنظومة الإعلامية اللبنانية إلى منظومات أخرى أقل تعرضاً للضغوط، للبرهنة على قدرتهم الدائمة على التوافق مع الاعتبارات المهنية، وهو أمر، لا شك، أصاب بعضهم بمرارة شديدة.

الانتهاك الغليظ الذي ارتكبته ميليشيات المعارضة بحق وسائل إعلامية لبنانية في الشهر الجاري ليس الأول من نوعه ولا الأعمق أثراً، ولكنه، ربما، كان الأوضح والأكثر تجسيداً؛ فانتهاك مهنية الإعلام البناني وأخلاقيته جرى، على قدم وساق، منذ عقود، حين انخرطت تلك الوسائل في الصراع السياسي أدوات مباشرة، وتركت دورها المفترض في خدمة الجمهور.

الأمل كبير في حل سياسي يجنب لبنان التشظي والاقتتال الأهلي، والأمل أكبر في منظومة إعلامية لبنانية لا تنخرط في الصراعات غير النظيفة غالبا،ً كأدوات، ولكن تأخذ دورها المفترض كعاكس لما يجري على الأرض، وناقل للحقائق والآراء بحياد وتوازن، مستفيدة من الإعلاميين اللبنانيين، بما عرف عنهم من مهارة وتألق مهنيين.

* كاتب مصري