كان انتخاب ديمتري ميدفيديف رئيساً جديداً لروسيا أمراً مفروغاً منه في كل الأحوال. إلا أن أحداً لا يستطيع أن يؤكد بالقدر نفسه من اليقين ما إذا كان ميدفيديف سينجح في تحسين الاقتصاد الروسي بعد أن تولى المنصب فعلياً في شهر مايو.
مما لا شك فيه أن إدارة فلاديمير بوتين تبدو كأنها تركت اقتصاد روسيا في حالة وردية. فقد بلغ متوسط النمو 7.2% أثناء الفترة من 1999 إلى 2008، وبلغت الاحتياطيات من النقد الأجنبي 30% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي ثالث أعلى نسبة على مستوى العالم. كما تضاعف حجم البورصة عشرين مِثلاً خلال الفترة نفسها، وأصبح بوسع أفراد الطبقة المتوسطة أن يشتروا السيارات أجنبية الصنع، وأن يقضوا عطلاتهم في الخارج، وأن يتناولوا الأطعمة في المطاعم الأجنبية. وتؤكد استطلاعات الرأي أن قطاعات الشعب الروسي المختلفة أصبحت أكثر رضا عن حياتها.يرجع النجاح الاقتصادي الذي حققته روسيا في جزء منه إلى ارتفاع أسعار النفط والسلع الخام. إلا أن النفط لا يعكس القصة بالكامل. فقد ساعد الإصلاح الضريبي في عام 2001 في تعزيز الحوافز إلى العمل وتقليص حالات التهرب الضريبي، بتطبيق ضريبة ثابتة على الدخل (13%) ـ وهي من بين أكثر النسب انخفاضاً في العالم. كما ساهم تحرير الإجراءات الخاصة بتسجيل الشركات وترخيصها، وتقييد عمليات التفتيش، في تحسين مناخ الأعمال التجارية والمؤسسات الصغيرة. كما أدت سياسة الاقتصاد الشامل الحريصة وإصلاح القطاع المالي إلى انخفاض أسعار الفائدة وتغذية الازدهار الاستثماري والاستهلاكي. وتضاعفت الأجور الحقيقية إلى ثلاثة أمثالها، وهبطت معدلات الفقر والبطالة إلى النصف.إلا أن أبرز الخطب التي ألقاها ميدفيديف قبل انتخابه- التي مالت إلى الليبرالية حتى وفقاً للمعاير الغربية- سلطت الضوء على العديد من التحديات الاقتصادية. ويبدو أن ميدفيديف يدرك أن تعزيز النمو لن يكون بالمهمة اليسيرة: إذ أن أسعار النفط لن تستمر في الارتفاع إلى الأبد، و»الثمار القريبة» التي نتجت عن الإصلاح الاقتصادي الأساسي وسياسات الاقتصاد الشامل الحصيفة قد قُـطِفَت بالفعل. وطبقاً لميدفيديف فإن الحل الوحيد يتلخص في دعم المبادرة والإبداع في القطاع الخاص.يُـعَد التفاوت بين الناس والفساد من بين العقبات الرئيسية. فعلى الرغم من الإنجازات الاقتصادية الحديثة التي حققتها روسيا، فإن التفاوت والفساد بلغا مستويات خطيرة. وطبقاً لمجلة «فوربس»، فقد بلغ عدد أصحاب المليارات الروس 87 مليارديراً، وبلغ مجموع ثرواتهم 471 مليار دولار أميركي، وهو رقم غير مسبوق إلا في الولايات المتحدة. إلا أن حصة أصحاب المليارات الروس في الناتج المحلي الإجمالي تصل إلى 30% تقريباً، بينما لا تتجاوز حصة أصحاب المليارات الأميركيين، والذين يبلغ عددهم 469 مليارديراً، حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة.والأهم من ذلك أن التفاوت في الفرص بلغ مستويات مرتفعة للغاية في روسيا. فطبقاً لدراسة استطلاع جرت مؤخراً، يرى أغلبية الروسيين أن الحصول على الثروة يستلزم الانخراط في أنشطة إجرامية والاستعانة بالصلات السياسية. ويرى 20% فقط من المشاركين في الاستطلاع أن الموهبة تشكل أهمية. وباستثناء الطبقة المتوسطة الصغيرة نسبياً والطبقتين الأصغر حجماً من رجال الأعمال والنخبة من المفكرين، فإن أغلب أهل روسيا لا يقدم على خوض المجازفات للعمل في مجال الأعمال التجارية ولا يميل إلى تفضيل التحرير الاقتصادي والسياسي. وطبقاً لدراسة استطلاع ضخمة أجراها البنك الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية، فإن 36% فقط من أهل روسيا يؤيدون الديمقراطية و28% فقط منهم يؤيدون إصلاحات السوق، وهي النسبة الأصغر بين الدول كلها التي تمر بحالة انتقالية.أما الفساد فيشكل العائق الثاني الرئيسي أمام النمو. ففي دراسة أخرى للبنك الدولي بالاشتراك مع البنك الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية، أقرت 40% من الشركات في روسيا بدفع مبالغ غير رسمية على نحو متكرر، وأشارت النسبة نفسها تقريباً إلى أن الفساد يمثل مشكلة خطيرة في قطاع الأعمال. وعلى النقيض من الحال في الأسواق الناشئة الأخرى، فلم يسفر ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي عن هبوط معدلات الفساد؛ بل لقد ظلت المعدلات مرتفعة كمثلها في الدول التي لا يتجاوز نصيب الفرد في دخلها ربع نظيره في روسيا.من بين الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاع معدلات الفساد أن الجهاز البيروقراطي القوي في روسيا سوف يخسر الكثير نتيجة للتحرير الاقتصادي. وربما كان الأهم من ذلك أن محاربة الفساد تشكل صعوبة بالغة في غياب الإصلاح السياسي، وحرية الإعلام، والمجتمع المدني النشط.من الجدير بالذكر أن ميدفيديف لا يتوخى الحذر في حديثه عن التحرير السياسي. بل لقد اقتبس في إحدى خطبه عبارة كاثرين العظمى: «إن الحرية هي روح كل شيء، وأنا أريد طاعة القانون ولكن ليس قانون العبيد». فضلاً عن ذلك فإن ميدفيديف يدرك أن حكم القانون يشكل الشرط الأساسي للنمو الاقتصادي المستدام، كما وعد ببناء نظام قضائي مستقل وقوي. نستطيع أن نقول بعبارة أخرى إن برنامجه أشبه بالبرنامج الذي تبناه بوتين في عام 2000. ولكن مما يدعو للأسف أن بوتين ذاته أقر مؤخراً بأن القدر الأعظم من تلك الأجندة لم يجد طريقه إلى النور.إن تنفيذ برنامج ميدفيديف من شأنه أن يفيد كل من روسيا والغرب. ولا يجوز لنا أن ننسى هذه النقطة، وذلك لأن المصالح الغربية في روسيا قد تنامت منذ انتخاب بوتين: حيث ازدهرت الاستثمارات الأجنبية، وأصبحت الطبقة المتوسطة متعطشة إلى كل ما هو غربي، وحتى الشركات الروسية أصبحت تستثمر في الخارج.إن روسيا تشكل سوقاً ضخمة بالفعل، وإذا ما استمر النمو بمعدلاته الحالية فلسوف تكون مؤهلة لمناقشة الانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (أويسيد) في غضون بضع سنوات. وهذا يعني أن الغرب لابد أن يجعل هذه العضوية مشروطة بالتحرر السياسي والاقتصادي. ومن الواضح في الوقت الحالي أن ميدفيديف يدرك أن مثل هذا التحول الجديد نحو التحرر الاقتصادي والسياسي يصب في مصلحة روسيا أيضاً.سيرجي غورييف & آليه تسيفنسكي* غورييف، عميد كلية الاقتصاد الجديد بجامعة موسكو. وتسيفنسكي، أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة هارفارد وكلية الاقتصاد الجديد.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
تجاوز النظرية الاقتصادية البوتينيوية
13-05-2008