جنبلاط: الابن سر أبيه 2 من 2

نشر في 11-06-2008
آخر تحديث 11-06-2008 | 00:00
 علـي بلوط يخطئ من يعتقد أن لبنان، خلال شهر مايو الماضي، وصل إلى حافة الهاوية ثم انتـُشِلَ منها. الحقيقة، كما تثبتها الوقائع الميدانية، أن البلاد خطت خطوتين أو ربما ثلاث خطوات نزولاً في السّـُـلم المتعرّج نحو جهنم الحرب الأهلية، ثم خرجت منها بأسرع وقت وبقدرة قادر. هذه الحقيقة المجردة لا يجب أن تغيب عن البال، هذا إذا كان المخلصون، على ندرة وجودهم، يسعون إلى عدم تكرار هذه التجربة المروعة.

مرة أخرى، فإن الدخول في كشف التفاصيل الميدانية لما حدث في مايو الدامي لا يعني، بأي حال من الأحوال، صبّ الزيت على النار، بقدر ما يهدف إلى تركيز الثقة بأن العنف قد استـُبدل بالحوار، ليس لأن أصحاب العنف ومروجيه قد عادوا إلى رشدهم رحمة بالبلاد وبالعباد، بل لعدم وجود خيار آخر. لذلك يجب أن تبقى العيون مفتوحة والأيدي مشدودة بعضها بعضاً للقضاء على احتمال العودة إلى سلوك طريق جهنم. هذا الأمر هو أولوية الأولويات عند الرئيس ميشال سليمان ومن ورائه قيادة «اليرزة» بشقيها العسكري والأمني.

ما حدث في 7 و8 و9 مايو الماضي يحتاج إلى كلام طويل وكثير، بعضه مدوّن في تقارير رسمية، والآخر ينام ملء جفونه في «أرشيف» الذين اشتركوا في المعارك.

في بيروت اشتعلت المعارك في منطقة تشكل الخط الفاصل بين شرق العاصمة وغربها حسب خطة عسكرية موضوعة سلفاً من قبل «حزب الله»، وحسب معلومات استخباراتية جمعها الحزب على مدى أشهر وربما سنة أفادت عن تمركز مسلحين حريريين في تلك المنطقة لإبقائها مفتوحة أمام الإمدادات العسكرية واللوجستية الآتية من حلفائهم في شرق بيروت. لذلك كانت الخطة العسكرية في الاستيلاء على هذه المراكز بأي ثمن، و»تنظيفها» من الميليشيات المعادية. ونجحت الخطة بشكل باهر وسريع، وكانت النتيجة إصابة الفريق الحريري بالارتباك والتشرذم وبالتالي التخلي عن مراكزه بأسرع مما توقعت قوات المعارضة. وهذه المعركة جاءت حازمة في إطاحة ميزان القوى مما أدى إلى استسلام المقاتلين الحريريين مع جزء من سلاحهم. يقال، وهذا القول ليس مدوناً في سجلات رسمية، إن «حزب الله» اشترى بعض أسلحة المقاتلين المستسلمين لمساعدتهم على العودة إلى مناطقهم. كذلك يقال إن الوثائق التي حصل عليها الحزب من مراكز الحريريين أشارت إلى أن أعداد مقاتلي «المستقبل» المسجلين للعمل في بيروت وحدها بلغ حوالي 5 آلاف مقاتل. لكن ذلك يبقى في إطار الشائعات إلى أن يفرج الحزب عن هذه الوثائق التي استولى عليها وعلى غيرها.

معركة الشويفات:

مصادر الكلمات الوصفية التالية ثلاثة: تقارير رسمية لقوى الأمن والجيش تحمل طابع السرية التامة. شهود عيان موثوق عادة بهم وتحقيق سريع أجراه كاتب هذا المقال على مدى الأسبوعين المنصرمين.

بعد استسلام الميليشيات الحريرية في بيروت الغربية جرت محاولة لفتح معركة في الجبل ابتداءَ من الشوف لإبقاء جو الاقتتال مشتعلاً. وهذا القرار اتخذته قيادة الموالاة على عجل لاستيعاب ما جرى على الأرض من نتائج سلبية. لكن بعد اختطاف الثلاثة من أعضاء «حزب الله» في عاليه وقتلهم وبعد صدور «بيان الحزب رقم واحد» يحمّل جنبلاط شخصياً مسؤولية ما حدث؛ وبعد وقوع معارك صغيرة متفرقة في الشويفات وجوارها اشتركت فيها عناصر درزية من جماعة جنبلاط وأرسلان ووئام وهاب؛ وبعد الاتصالات التي أجراها مشايخ الدروز لمنع الاقتتال الدرزي- الدرزي، وموافقة جنبلاط على وقف العمليات، شرط أن يتدخل الجيش بسرعة للفصل بين المتقاتلين... وتنفيذاً للتنسيق الأمني بين قيادة اليرزة و»حزب الله» الذي أثبت فعاليته في معركة بيروت الغربية، حيث نجحت الخطة في عدم توريط الجيش في هذه المعارك، أبدت «اليرزة» مخاوفها من تلبية شرط جنبلاط بتدخل الجيش الفوري والسريع في الشويفات وفي القرى المحيطة بعاليه، معتبرة أن عملية التدخل هذه ليست مضمونة النوايا وربما تؤدي إلى اشتراك أو اشراك الجيش بالقتال، في حال جرى إطلاق النار عليه ووقوع ضحايا في صفوفه. ورغبت «اليرزة» بوجود ضمانات مضمونة مائة بالمائة قبل التدخل. ونظراً لسرعة الأحداث ولعدم الاطمئنان للنوايا ولوجود حالة ضبابية كثيفة، وللتأكد من أن «أوامر» جنبلاط لجماعته بوقف إطلاق النار أصبح قيد التنفيذ، اقترح «حزب الله»، بعد قناعته بوجاهة هذه الأسباب، أن يقوم بإرسال فرقة كشافة للتأكد من خلو الطريق الذي يسلكه الجيش من الأفخاخ. وهذا ما حصل، وأرسل الحزب الفرقة الكشافة المؤلفة من عدة سيارات جيب مسلحة. وعندما وصلت طلائع هذه الفرقة إلى داخل بلدة الشويفات، أصيبت سيارة «الجيب» بقذائف صاروخية «جنبلاطية» عدة فدمرتها وقتلت من فيها وعلى رأسهم قائد ميداني مهم للحزب. وكان الحزب مستعداً لمثل هذه المفاجئات، فرصد مركز إطلاق القذائف الصاروخية الآتية من مبنى يحتوي مكون من طوابق، فسارع إلى توجيه عدة صواريخ (يقال 3 وربما 4) حيث تم تدمير جزء من المبنى. مصادر «حزب الله» تتفق مع مصادر الجيش في تحديد الخسائر البشرية لتدمير المبنى الجنبلاطي بـ (37) قتيلاً مقاتلاً، بينما التزم الجنبلاطيون الصمت.

معركة الباروك:

منذ انتهاء حرب 2006 مع إسرائيل، سيَّر «حزب الله» دوريات مراقبة على مدى 24 ساعة في المنطقة الممتدة من «المقلع» الثاني لجبل الباروك حيث تسكنه الأكثرية الدرزية، نزولاً إلى سهل البقاع الغربي مروراً ببلدة مشغرة ذات الأكثرية الشيعية ووصولاً إلى منطقة راشيا ومرجعيون في أقصى الجنوب اللبناني. مهمة هذه الدوريات إعطاء إنذار مبكر في حال قيام إسرائيل بهجوم واسع يستهدف الخاصرة الطرية للبنان وسورية على حد سواء. وتقول مصادر «حزب الله» إن هذه الدوريات على مدار الساعة لا علاقة لها بما يجري داخل المنطقة الدرزية، بل إن مهمتها تنحصر فقط بمراقبة التحركات الإسرائيلية. وفي خضمّ أحداث الشويفات قامت عناصر جنبلاطية مؤلفة من حوالي (300) مقاتل بتطويق إحدى هذه الدوريات الثلاث وتبادلت إطلاق النار معها. واستطاع مقاتلو جنبلاط من فرض حصار حول هذه المجموعة حيث أصبحت حسب التعبير العسكري- ساقطة عسكرياً. غير أن سرعة التحرك لدى مجموعتي الحزب الآخريين استطاعت أن تفك الحصار عن مجموعتها الاولى. حدث ذلك كما يلي: أبلغت قيادة الحزب في بيروت جنبلاط بحقيقة ما يجري على أرض الباروك وذكرت له أن القوة الضاربة في حزبه قد تمّ حصارها. ولتأكيد هذا القول، قيل لجنبلاط إن مقاتليه أصبحوا تحت مرمى نيران مقاتلي الحزب، وأنهم بعد نصف ساعة سيطلقون النار على أرجل عدد من مقاتليه المحاصرين للدلالة على صدقية ما يدعون. وحدث ذلك بالفعل حيث أصيب حوالي خمسة أفراد برصاص مقاتلي الحزب في أرجلهم. بعدها تبلغ جنبلاط إنذار الحزب القوي: «مقاتلو فرقتنا المحاصرون دخلوا في عداد «الشهداء الأحياء». وإذا لم يتم فك الحصار عنهم سيدفع مقاتلوك في الباروك الثمن الباهظ. باستطاعتنا أن نبيدهم أولاً، ثم نتوجه نزولاً ولن نتوقف إلا بعد احتلال المختارة. إذا لم يتمّ فك الحصار عن مجموعتنا بعد ساعة سنبدأ هجومنا حسب الخطة العسكرية المذكورة.»

قبل انتهاء مهلة الساعة أصدر جنبلاط أوامره الصارمة إلى مقاتليه من «منفاه الاختياري» في شارع كليمنصو بفك الحصار عن مجموعة «حزب الله» وبالانسحاب إلى داخل منطقة الباروك. وبذلك تحول مشروع الكارثة إلى إشكال أمني يصرّ الطرفان على عدم الحديث عن تفاصيله في الوقت الحاضر. غير أن الشر المستطير الذي كانت تمثله حادثة الباروك تحول إلى خير كبير حيث ساهم بشكل فعّال في إيصال التسوية إلى ما وصلت إليه في مؤتمر الدوحة. ولكن إلى متى؟

* كاتب لبناني

back to top