يواصل عاصم عبد الماجد الرد على فتوى «التترس» التي أطلقتها «القاعدة» وأباحت من خلالها دماء المسلمين، وبررت لنفسها تفجيرات عديدة نفذتها في ديار الإسلام، وهو في هذه الحلقة يعدد 6 أوجه يحاجي بها هذه الفتوى ويفندها.

Ad

الجريدة

هذا بيان متعجل لعدم صحة استدلالاتهم بأقوال العلماء على أفعالهم وتفجيراتهم، وقد أوردته في ستة أوجه:

الوجه الأول

أن كل أقوال الفقهاء التي ذكروها مختصة بوجود المسلم ضمن جموع الكفار، إما في بلادهم وإما في جيشهم، أما في حالتنا فالعكس هو الحادث أي أن الكافر -كتابياً أو غير كتابي- هو الموجود بين جموع المسلمين، ولا يصح بأي حال من الأحوال قياس إحدى الصورتين على الأخرى، فهذا قياس مع الفارق... والفارق هنا شاسع وكبير وخطير ومؤثر في الحكم لا محالة. ولا ينفع «القاعدة» هنا الاحتجاج ببعض أقوال أهل العلم بأن دار الإسلام إذا علتها شرائع جاهلية صارت دار كفر، ويرتبون على ذلك أن الرمي بما يعم إهلاكه يجوز، لأن الدار صارت غير ممنوعة. أقول: لا ينفعهم الاحتجاج بهذا القول لبعض أهل العلم... لا لأن غيرهم من العلماء خالفوهم فيه، ولكن لأن عصمة دماء المسلمين ثابتة سواء سمينا ديارهم دار إسلام أو دار حرب أو دار كفر أو داراً مركبة، كما سماها ابن تيمية، هذا وقد صرح ابن تيمية بذلك عندما سئل عن بلد عامة أهله مسلمون لكنه لا يحكم بشرائع الإسلام، فقال: «يعامل فيه المسلم بما يستحقه».

وقال أيضاً عن أهله المسلمين: «لا يحل سبهم ولا رميهم بالنفاق عموماً».

لكن «القاعدة» استباحت رميهم بالمتفجرات! ثم هل السعودية الحصن الباقي للإسلام قد صارت هي الأخرى دار حرب؟!

الوجه الثاني

سلمنا جدلاً أن قياس وجود كافر بين المسلمين على وجود مسلم بين الكافرين قياس صحيح عقلاً، وأنه لا فارق بين الصورتين، لكن من قال إنه يجوز القياس على أقوال أهل العلم أصلاً.

فالقياس يكون على نص من كتاب أو سُنّة، وفي مسألتنا لا نص من كتاب أو سنة يبيح قتل مسلم توصلاً إلى قتل كافر، وإنما هناك اجتهادات لعلماء في مسائل معدودة سبق ذكرها، وهي مسألة الجيش ومسألة الحصن، وهذه الاجتهادات مأخوذ معظمها من المصلحة المرسلة أو غيرها. لكن لا يوجد نص صريح بجواز قتل مسلم توصلاً إلى قتل كافر، ومن ثم فالواجب هو العمل باجتهادات العلماء في المواضع التي قيلت فيها لا قياس غيرها عليها.

سيقال: لكن هناك نصوصاً استأنس بها العلماء في فتاواهم تلك، وهي تصلح للقياس عليها، كقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين»، وقوله عليه الصلاة والسلام (في ما روته عائشة): «يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم. قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم». رواه البخاري.

وواضح أن هذه الأحاديث فيمن يقيم في بلاد المشركين بين جموعهم أو من يوجد في جيش غاز، وواضح وضوح الشمس في رابعة النهار أنه لا يجوز قياس مسلم يقيم في داره ووطنه الذي عامة أهله مسلمون على مسلم يقيم في ديار المشركين أو يوجد مع جيشهم الزاحف على بلادنا، ومن لم يدرك الفارق بين الصورتين فقد بلغ في الجهل بالشرع وضعف البصيرة مبلغاً عظيماً.

بقي تساؤل مرير: أين يمكننا -نحن المسلمين- المقام حتى نأمن على أنفسنا وأهلينا من تفجيرات «القاعدة»... إذا كان قادتها ومفتوها لا يعرفون فارقاً بين مسلم يعيش في السعودية وآخر يزور الفاتيكان؟!

الوجه الثالث

سلمنا جدلاً أن القياس على أقوال أهل العلم جائز، وأن قياس وجود كافر بين المسلمين وفي ديارهم على وجود مسلم بين الكفار في ديارهم أو جيشهم قياس صحيح، وأغمضنا أعيننا عن الفارق الصارخ بين الصورتين، لكن العلة التي لأجلها أباح الفقهاء ما نقلناه عنهم من رمي المسلم بين الكفار غير موجود في تفجيرات «القاعدة» وعملياتها داخل بلادنا. فالعلة عند الفقهاء هي إما مصلحة حفظ الأمة من الاستئصال كما في مسألة الجيش، وإما زيادة الفتح ونشر الإسلام كما في مسألة الحصن.

وقد اتفق الفقهاء على اعتبار العلة الأولى فلم يختلفوا -في ما نعلم- في جواز رمي الجيش الغازي، وإن أدى ذلك إلى قتل الترس المسلم إذا خفنا على الأمة كلها، وشرطوا أن تكون المصلحة من وراء ذلك ضرورية قطعية كلية وألا يكون هناك طريق آخر لتحقيقها.

أما في الصورة الثانية -وهي مسألة الحصن- فقد اعتبر فريق منهم هذه العلة، بينما أبى فريق آخر اعتبارها، وبالتالي لم يسوغوا رمي الحصن إن كان فيه مسلم ولو أسيراً.

فهل هاتان العلتان أو إحداهما موجودة في عمليات «القاعدة»؟ بالقطع لا... إذ ليس هناك خوف استئصال أهل الإسلام إذا لم تقم «القاعدة» بتفجيراتها، لأنه ليس هناك جيش زاحف يتترس ببعض المسلمين أصلاً، إنما هناك كتابيون أجانب موجودون كأفراد في بلاد العالم الإسلامي سواء كانوا قد جاؤوا لزيارة أو تجارة، وسواء قلنا يباح وجودهم أو لا يباح، لكنهم على أي حال ليسوا جيشاً زاحفاً سوف يبيد أهل الإسلام، وليست هناك مصلحة، لا ضرورية ولا قطعية ولا كلية ستتحقق من رمي هؤلاء، ولن تتحقق إلا بهذا الطريق.

وإذا زعم زاعم أن هناك مصالح تتحقق بهذه العمليات فهي مصالح جزئية ظنية، أما كونها جزئية فلأنها تعود على أفراد «القاعدة» فقط الذين يتصورون أن تكرار مثل هذه العمليات سيجبر أميركا على تغيير سياستها حيال «القاعدة» أو غيرها ممن دار في فلكها، وأما كونها ظنية فلأننا لا نقطع بتحقق هذه المصلحة بهذا الطريق، وإنما هي مجرد ظنون وآمال في أذهان قادة «القاعدة».

لكن الحقيقة الثابتة التي نشاهدها كل مرة وعقب كل تفجير أن المصالح التي توهموها لا تتحقق، بل المتحقق قطعاً ويقيناً مفاسد متتالية متتابعة متزايدة، لا على أبناء «القاعدة» أو على غيرهم من أبناء الحركات الإسلامية فحسب، بل على الأمة كلها.

فبأي دليل يستبيحون قتل المسلمين -بدعوى التترس- وهو مفسدة عظيمة عاجلة متحققة الوقوع سعياً وراء أوهام بأنه قد يتحقق من وراء ذلك مصالح في مستقبل الزمان، بينما المتحقق فعلاً وحالاً مفاسد عظيمة أخرى.

أيضاً العلة في مسألة الحصن وهي زيادة الفتح ونشر الدين غير موجودة في عمليات «القاعدة» فليس هناك فتح ولا حصن ولن تؤدي تفجيرات «القاعدة» إلى سقوط الأنظمة الحاكمة، ولا «القاعدة» تهدف إلى ذلك أصلاً، ولا هي قادرة عليه، ثم إن بلداً كالسعودية لا يجوز مقاتلته أصلاً كما قدمنا.

فإذا كانت العلة التي لأجلها أباح الفقهاء رمي الكفار، وإن أدى ذلك إلى قتل مسلم معهم، غير موجودة أصلاً في عمليات «القاعدة»، لم يصح الاستدلال بأقوال هؤلاء العلماء ولا حتى القياس عليها -إن ساغ- لتبرير أفعال «القاعدة».

توسيع باب القتل

هذا وقد تنبه بعض المتحدثين باسم «القاعدة» على ما يبدو إلى ما ذكرناه من أن العلة التي أباح لأجلها الفقهاء رمي الكفار ولو وجد معهم مسلم غير متحققة في عمليات «القاعدة»، فحاول أحدهم استحداث علة جديدة، فقال بجواز الرمي إذا تترس الكفار بالمسلمين لإحداث ضرر أو تمرير فتن، ثم قال: إن هذا الأمر متروك للمجاهدين! وهذه جملة أخطاء مركبة كظلمات بعضها فوق بعض، فليس هناك تترس أصلاً كما ذكرنا، ثم لو افترض وجود تترس فإنه لا يباح قتل الترس المسلم دفعاً لأي ضرر أو خوفاً من أي فتنة، بل قد حدد العلماء طبيعة الضرر والفتن التي يباح لأجلها الرمي حتى جعلوها مصلحة ضرورية قطعية كلية.

فانظر كيف ضيَّق العلماء هذا الباب حتى لا يستباح دم المسلم إلا بسبب قوي ولظرف قاهر... وانظر كيف يريد بعض متحدثي «القاعدة» توسيع هذا الباب وفتحه على مصراعيه حتى تراق دماء المسلمين أنهاراً بحجة دفع ضرر أي ضرر، أو منع فتن أي فتن. ثم لم يكتف أحد متحدثي «القاعدة» بذلك حتى جعل صاحب الحق في تقرير هذا الأمر الخطير الجلل هم المجاهدين لا العلماء. والذي يعرفه كل مبتدئ في علوم الشرع أن العلماء هم الذين يقررون جواز الفعل من عدمه، ثم المجاهد كغيره من المكلفين يعمل بما يقرره العلماء، لكن الرجل كما قلنا يريد توسيع باب القتل والإثخان في أهل الإسلام، لكنه نسي أن يقول لنا ما الحكم إذا كانت تفجيرات «القاعدة» هي التي تجلب لنا ولهم وللأمة كلها الضرر وهي التي تزيد الفتن؟!

الوجه الرابع

وهو أوضح الوجوه وأقواها في تفنيد رأي «القاعدة» وبيان عدم صحة دعواهم، وأنا أدعوهم إلى أن يتوقفوا طويلاً عنده فإني طالعت ما قاله وكتبه من يفتون لهم، فلم أجدهم التفتوا إليه ولا انتبهوا إلى الفارق الشاسع بين ما أجازه الفقهاء وما يفعلونه هم، ذلك أن الفقهاء أجازوا قتال الكفار ولو تضمن قتل مسلم لأنه -أي القتال- واجب إما وجوباً عينياً كما في مسألة الجيش الغازي وإما وجوباً كفائياً كما في مسألة الحصن، فوقع تعارض بين وجوب الجهاد وحرمة قتل المسلم، فرجح الفقهاء وجود الجهاد على حرمة قتل المسلم بالإجماع في مسألة الجيش واختلفوا في مسألة الحصن، فمنهم من رجح هذا ومنهم من رجح ذاك.

يقول ابن عابدين الحنفي: «... نستعين بالله ونحاربهم بنصب المجانيق وحرقهم وغرقهم وقطع أشجارهم ورميهم، وإن تترسوا ببعضنا ونقصدهم -أي الكفار- وما أصيب منهم -أي من المسلمين- فلا دية فيه ولا كفارة، لأن الفروض لا تقرن الغرامات» أ. هـ

وقال ابن قدامة: «... وقال القاضي والشافعي يجوز رميهم إذا كانت الحرب قائمة، لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد». وقال الرملي: «فإن كان فيهم مسلم واحد أو أكثر أسير أو تاجر جاز ذلك -أي حصارهم- وتبييتهم في غفلة وقتلهم بما يعم وإن علم قتل المسلم بذلك لكن يجب توقيه ما أمكن على المذهب لئلا يعطلوا الجهاد علينا بحبس مسلم عندهم».

أشد المحرمات

واضح من أقوال أهل العلم هذه أن الرمي أبيح مع ما فيه من هلاك بعض المسلمين لكيلا يتعطل الجهاد الذي هو في تلكم المواطن فرض عين أو فرض كفاية... والمقصود أن التعارض بين وجوب الجهاد وحرمة دم المسلم هو الذي دفع الفقهاء إلى الترجيح.

أما في عمليات «القاعدة» فلا يوجد هذا التعارض أصلاً، فإن الذين تستهدفهم عمليات «القاعدة» ليسوا جيشاً غازياً ولا حصناً يراد فتحه، بل هم مجرد أفراد، وما تفعله ليس قتالاً وإنما هو قتل. وهؤلاء الذين تريد قتلهم من الكفار ليس قتلهم واجباً، لا وجوباً عينياً ولا كفائياً، بل أقصى ما تستطيع «القاعدة» ادعاءه أنهم يباح قتلهم وأنهم حلال الدم إذ لم يثبت لهم ما يعصم دماءهم من إسلام أو عهد أو أمان صحيح- كذا تقوم «القاعدة»- ولنفترض أن هذا صحيح، فمن قال: إنه لأجل قتل شخص حلال الدم يستباح دم مسلم معصوم الدم، وكيف تحث «القاعدة» أتباعها على فعل مباح -وهو قتل كافر غير معصوم عندهم- ولو أدى إلى ارتكاب محرم من أشد المحرمات إثماً.

قال القرطبي: «التوصل للمباحث بالمحظور لا يجوز لاسيما بروح المسلم».

وهذا أقوى الوجوه في تحريم عمليات «القاعدة» التي تتم في بلاد المسلمين ولا انفكاك لهم عنه سواء ادعوا أنها دار كفر أو حرب، أو سلموا أنها دار إسلام. فعلى كل حال، لا يجوز التوصل إلى قتل شخص مباح الدم بقتل مسلم معصوم الدم، لأنه لا يجوز استحلال المحرم للتوصل إلى فعل مباح. بل الأصوليون متفقون على عكس ذلك تماماً، فهم يقررون أنه إذا تعذر ترك المحرم إلا بترك غيره من المباح وجب ترك هذا المباح، وتنزيل هذا المبدأ الأصولي المهم على مسألتنا يؤدي إلى وجوب ترك استهداف آحاد الكفار من المخالطين للمسلمين في بلادنا صيانة لدم المسلمين، وهذا عكس ما تقول به «القاعدة».

الوجه الخامس

أن هؤلاء الذين يدخلون إلى بلادنا وإن كانوا كفاراً، إلا أن معهم أماناً صريحاً أو ضمنياً أو شبهة أمان تعصم دماءهم وتجعل قتلهم محرماً. فكيف يستهدفون قتل من حقن دمه الأمان ويستهدفون معه من حقن دمهم الإسلام؟ وقد تقدم بيان هذا من قبل فلا معنى لإعادته.

الوجه السادس

أن عامة من تستهدفهم «القاعدة» هم من أهل الكتاب وهؤلاء منع الشرع قتالهم وقتلهم حتى يعرض عليهم الإسلام... فإن أبوا، فالجزية، فإن قيل: نحن عاجزون عن أخذ الجزية منهم قلنا: لا يصح أن تجعلوا عجزكم عن هذا مبرراً لسلبهم هذا الحق الذي جعله الشرع لهم ومنحهم به فرصة حقن دمائهم وأموالهم، فكيف تستهدفون بالقتل من لم يبح لكم الشرع قتله إلا بعد عرض عقد الذمة عليه وتستهدفون معه المسلمين؟