خلال المداولات الأخيرة لإقرار اتفاقية روما عام 1998، التي تم بموجبها انشاء المحكمة الجنائية الدولية، كان لافتا اتفاق اسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وأغلبية الدول العربية على الاعتراض على المحكمة بكل الوسائل الممكنة، هكذا، العرب وأميركا واسرائيل، فسبحان من جمعهم!

Ad

بالطبع من حق الرئيس السوداني، كما هو من حق غيره أن يعترض على مذكرة التوقيف الصادرة بحقه من المحكمة، ومن حقه أيضا أن يفند تلك الخطوة بمبررات سياسية، كعودة الاستعمار، أو استهداف السودان لمنعه من أن يكون دولة عظمى- هكذا- فتحريك الدعوى من مجلس الأمن تشوبه شوائب سياسية، فمجلس الأمن هو هيئة سياسية وليست قضائية، كما أن أعضاء مجلس الأمن وخصوصا الدائمين منهم، ليست دولا تتمتع بنقاء انساني، ويصح في هذه الحالة التشكيك في تغاضي مجلس الأمن عن الجرائم التي ارتكبتها اسرائيل في غزة والتي ترقى إلى جرائم حرب حسب وصف منظمة العفو الدولية، وبالتالي فإنه صار لزاما علينا أن نتحرك في اتجاه المحكمة لبناء ملف قضية، وقد شاركت شخصيا في بعض تلك الجهود الدولية، وهي في أغلبها جهود فردية ومنظمات غير حكومية في سبيل ادانة العدوان الاسرائيلي على غزة، ومن المؤسف أن هذه الجهود تبقى محدودة الموارد، أما أغلبية الدول العربية فتمارس نفاقا سياسيا، فهي تتحالف وتتواصل مع «الأعداء» ليلا وتشتمهم نهارا، لزوم البهارات السياسية.

وهكذا فإن تركيز الحملة المضادة على المحكمة هو أمر غير مجد، ويمثل إضرارا بحقوق ضحايا المجرمين من سياسيين وعسكريين ورؤساء في العديد من الدول، فالمحكمة هي جهة مستقلة أنشأتها اتفاقية روما، ولا سلطان لمجلس الأمن على قراراتها، باستثناء احالة القضايا وتأجيل الاجراءات، وهناك توجهات قوية لتعديلات حتى في هذه الجزئيات، ومع أن الطريق امام العدالة الجنائية الدولية ما زال شائكا، فإن المحكمة تظل هي الإجابة المثلى لمعاناة الملايين من ضحايا جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية والإبادة الجماعية.

ومن المؤسف جدا أنه في اطار الضجيج السياسي لن يسأل أحد عن الضحايا، ولماذا قتلوا؟، كما لن يكلف أحد نفسه الحديث عن أن كل الضحايا هم من المسلمين، حيث يبدو أنه حتى المسلمون على درجات، وهي حكاية مكررة، فالانتقائية والازدواجية في المعايير أمر يتوافق عليه البشر، غربيين كانوا أم غير ذلك.

أما وان قرار التوقيف قد صدر، فإنه لم يعد مهما البحث عن كيفية القاء القبض والاحضار، فالمحكمة لا تمتلك جيشاً ولا جهازاً أمنياً لتنفيذ قراراتها، فهي تعتمد بشكل اساسي على مدى تجاوب مجلس الامن، وهو أمر مستبعد، فالاعتبارات السياسية هي التي تسير الدول وليست الحقوقية، وبالطبع أمام الحكومة السودانية خيار التعامل السياسي مع مجلس الأمن وهو الذي يبدو انه سائر فيه، وان كان من خلال جهود المنظمات الاقليمية ودول المجلس عسى ان تثمر في التوصل الى تأجيل الاجراءات، وخيار آخر وهو التعامل مع المحكمة مباشرة وهو ما أغلق بابه الرئيس السوداني.

وبما أن تثبيت أركان العدالة الدولية سيأخذ وقتاً وجهداً، وبالذات بسبب عرقلة تلك العدالة من دول كأميركا واسرائيل واغلب الدول العربية، فإن الرئيس السوداني يكون قد دخل التاريخ لانه اصبح اول رئيس في العالم، والتاريخ كذلك، تصدر بحقه مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية، مما يعني رفع الحصانة عن رؤساء الدول في الجرائم الانسانية، وفتح الباب على مصراعيه لاجراءات مماثلة ضد رؤساء آخرين، غربيين او غير غربيين، وعسى الا يكون ذلك اليوم ببعيد.

لقد استغرق تأسيس المحكمة الجنائية الدولية اكثر من نصف قرن، وبدأت ملامحها تشكل في بداية التسعينيات من القرن الماضي بمحكمة البوسنة ثم رواندا، وها هي تؤسس لرفع الحصانة عن الرؤساء، وهي ليست إلا خطوة على الطريق، فالمسيرة قد انطلقت.