نستورد كل شيء من الغرب، ورغم ارتفاع التكلفة وطول الاستعمال، فإننا لا نحسن، إطلاقا، تنمية أو تطوير أو إصلاح ما نستورده، لكننا نستطيع تخريبه بكل جدارة... وهل في الدنيا أمة أقدر منا على التخريب أو على الاحتفاء بالخراب؟

Ad

من ذلك ظاهرة استطلاعات الرأي في وسائل الإعلام العربية.

إن استطلاع الرأي وحده يعد أمرا غريبا في عالم لم يتعود أهله أن يُسألوا عن رأيهم، ولم يملكوا منذ ألف وخمسمئة عام فرصة التفكير وإنتاج الآراء، لكن الأغرب من هذا هو أن من يجرون الاستطلاعات -في هذه الحفلة التنكرية- هم في الأغلب أغبياء بالفطرة الطبيعية، أو متغابون بالفطرة الحكومية، الأمر الذي ينتج عنه ما يحرق قلب الضحك من الحزن، ويجري دموع الحزن من شدة الضحِك.

المسألة في هذا الشأن -وفي كل شأن- أننا بتقليدنا الأعمى أو المتعامي، نبدو كطفل يلبس حذاء أبيه، فهو في الظاهر يبدو مرتديا الحذاء، لكن منظره المثير للضحك يقول إن الحذاء هو الذي يرتديه، وأيا كان اللابس، فإن كلا منهما يعطل فاعلية الآخر.

مرة قرأت استطلاعا في جريدة سلطوية، بمناسبة البدء في مفاوضات سلام بين السلطة والمعارضة المتهمة باستنادها إلى دعم غربي، وكان الاستطلاع على النحو التالي: «بمناسبة بدء الحوار بين الحكومة والجبهة الفلانية العميلة، هل ترى أن الجبهة مستندة إلى ضغوط غربية مشبوهة، أم مدفوعة بتكتيك خياني؟»!

إن الجريدة، بعد أن عبأت القارئ سلفا بالعداوة للمعارضة، وأبدت رأيها العدواني قبل أن تسأله، وضعته أمام إجابتين، هما في الواقع إجابة واحدة، وهي إجابة ستنزل بالمعارضة إلى الحضيض، حتى لو كان المشاركون في الاستطلاع قارئا واحدا فقط!

وفي صحيفة أخرى، كان الاستطلاع ثقافياً (أنصح القارئ الحصيف أن يغطي دماغه في هذه المناسبة لكي لا يخجل إذا تذكر أننا أمة أمية حتى النخاع)، وهو استطلاع يسأل القراء عن أعظم كاتب عربي، لكنه لم يضع لهم للاختيار سوى اسمي كاتبين اثنين فقط: فلان.. أم علان؟... وهناك خانة يتيمة مرمية بعيدا مثل برميل قمامة، تقول لهم: أم لا أحد منهما؟

وقد جاءت النتيجة بالطبع: لا أحد منهما!

والسؤال المهم هنا: من الأعظم إذن؟!

إن صيغة الاستطلاع غبية أو متغابية، وهي لا تحمد في الحالتين، ووجودها مثل عدمها تماما، إذ لم تستفد الصحيفة، ولم يستفد القارئ، ولم تستفد الثقافة... فعلام كان الاستطلاع؟!

وحتى لو أن الصحيفة تركت الأمر مشاعا ليختار كل قارئ الكاتب الذي يراه عظيما، فإن استطلاعا كهذا أبعد ما يكون عن الثقافة، وأقرب ما يكون إلى لعبة «اللوتو»، إذ ماذا ستستفيد الثقافة إذا اختار سبعة من اثني عشر قارئا، كاتبا ما واعتبروه الأعظم؟

وفي الصحيفة نفسها ظهر استطلاع جديد فرضته سطوة الإرهاب، وهو برغم ما يوحيه موضوعه من رعب، صالح لأن «يؤتى من بلاد بعيدة ليضحك ربات الحداد البواكيا»... كما قال المتنبي.

يقول الاستطلاع: «هل تعتبر الإرهاب عملا سيئا إذا وقع عليك.. أم إذا وقع على غيرك؟»!

إن هذا هو أغبى استطلاع رأيته في حياتي، ولو لم أكن موقنا بأن الصحيفة ضد الإرهابيين لقرّ في يقني أن الذهنية المنتجة له هي ذهنية إرهابي خالص.

مثل هذا الأمر، وبصيغته الآنفة، لا يُسأل عنه عامة الناس، لأن الأغلبية العظمى منهم هي على فطرتها السوية، وهم في أغلبيتهم يرفضون الإرهاب جملة وتفصيلا، سواء أوقع عليهم أم وقع على غيرهم، وإن اختيارهم لأحد الجوابين لا يتيح لهم أبدا أن يكونوا بشرا أسوياء، فهم إما أن يكونوا أدنياء أنانيين، وإما أن يكونوا متوحشين كارهين لحياتهم.

ولو أن الصحيفة طلبت رأيي، لنصحتها بتوجيه ذلك السؤال إلى «مكائن» فتاوى الإرهاب وحدهم... لأن واقع الحال قد أرانا من قبيح أفعالهم ما ينم عن بهجتهم للاختيار بين السيئين.

ومن نماذج هؤلاء، واحد دعاه انفجار بعض أصابع الألعاب النارية في بلده إلى تركيب مكبر صوت لحنجرته المكبرة أصلا، من أجل تصعيد استنكاره للسماء السابعة، لكن سقوط مئات الآلاف من المدنيين العراقيين الأبرياء ضحايا للتفجيرات الحقيقية التي يقوم بها مجرمون حقيقيون، لم يحرك شعرة واحدة من هدبه!

وواحد آخر، جرف مئات الشبان الأغرار في غفلة من ذويهم، لكي يقتلوا الأبرياء في العراق، ويقتلوا أنفسهم، لكنه ما إن سمع أن ولده سيذهب في ركابهم -وكان الولد يمزح- حتى رمى دفتر فتاواه، وركض نحو رجال أمن بلاده لاهثا، متوسلا إليهم أن يعتقلوا «الولد العاق» الذي يريد أن يثكله «بارتكاب الجهاد في سبيل الله»!

مثل هذا الاستطلاع يجب أن يوجه إلى أمثال هؤلاء وحدهم فقط.. فالسؤال الوحشي المتلفع بثوب الاستطلاع لا يليق إلا بالوحوش المتسترة بثوب الدين.

ولعل الاستطلاع الأمثل الذي يليق بالقارئ السوي، والذي ينسجم مع نمط الاستطلاعات العربية، هو التالي:

هل ترى أن الإعلام العربي الدميم اللئيم المستعير من الببغاء تقليده للأصوات، ومن القرد تقليده للحركات: كذاب.. أم مزيف للحقائق.. أم كلاهما؟!

* شاعر عراقي