تقول المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 10 لسنة 1996 بتعديل بعض أحكام قانون تنظيم القضاء «خير ضمانات القاضي هي التي يستمدها من قرارة نفسه، وخير حصن يلجأ إليه هو ضميره، وغني عن البيان أن المنصة لا تصنع من الجالس عليها قاضياً إن لم يكن بين جنبيه نفس القاضي، وعزة القاضي، وكرامة القاضي، وغضبة القاضي لسلطانه واستقلاله وهذه هي الحصانة الذاتية، وهذه العصمة النفسية هي أساس وعصب استقلال القضاء، لا تخلقها النصوص ولا تقررها قوانين».
وهي الكلمات نفسها التي عبر بها عن هذه المعاني المرحوم محمد صبري أبو علم وزير العدل عند تقديمه أول قانون لاستقلال القضاء في مصر عام 1943. تذكرت هذه المعاني الرائعة وأنا أطالع في الصحف اليومية مناشدة القضاة غير الكويتيين مساواتهم بأقرانهم الكويتيين في الزيادة في الرواتب والبدلات التي تقررت أخيراً لهؤلاء وقصراً عليهم، ولعلها المرة الأولى التي سوف تختلف فيها مرتبات هؤلاء عن مرتبات أولئك. والواقع أن موقف القضاة غير الكويتيين في هذه المناشدة كان موقفاً نابعاً من حرصهم على كرامتهم وكرامة الوظيفة القضائية، ولا أدل على ذلك من أن أحداً منهم لم يشارك في المطالبة بزيادة الرواتب والبدلات في الدعوى التي أقامها 112 قاضياً ووكيل نيابـة كويتياً. ولكن يبدو أن هذا المعنى كان غائباً، في ما طالعته في الصحف اليومية من أن حرص المجلس الأعلى للقضاء، على هيبة القضاء واحترامه وصون كرامة القضاة وهيبتهم، كان الدافع إلى إعرابه في بيان أصدره عن شديد أسفه للمناشدة التي طالب فيها القضاة غير الكويتيين بمساواتهم بأقرانهم من القضاة الكويتيين، لأن في ذلك- وفقاً لهذا البيان- خروجاً على أعراف وتقاليد القضاء ومساساً بسمو وقداسة الرسالة القضائية التي يحملونها. وأقدر كل التقدير حرص المجلس الأعلى للقضاء على التقاليد والأعراف القضائية، التي نشأنا عليها في مصر جيلاً بعد جيل، وقد دفعني حرصي عليها أيضاً إلى أن أنبه إليها في مقال لي تحت عنوان «إلا كرامة القضاء»، عندما طالعت في الصحف اليومية صحيفة الدعوى المذكورة التي أبرزتها هذه الصحف بعناوين مثيرة منها مانشيت على لسان المدعين يقولون فيه: «دعوانا ليست دعوى عادية بل مطالبة بصوت عال بحقوقنا المسلوبة كأعضاء سلطة قضائية»، وقد تمنيت في هذا المقال لو أقيمت الدعوى بصوت خافت ومن قاض واحد، والحكم باعتباره عنوان الحقيقة سوف يشمل الجميع، مثلما تصدر الأحكام القضائية بصوت خافت، ولكن بعضها يزلزل الأرض من تحت أقدام الطغاة «الجريدة 2/2/2009». فالمرتب هو كرامة الوظيفة القضائية، لذلك تحرص دول كبريطانيا محافظة منها على كرامة الوظيفة القضائية، على أن تترك للقاضي أن يحدد راتبه بنفسه، من خلال شيك على بياض يقدم له شهرياً، وفي ظل تقاليد عريقة يلزم فيها القاضي نفسه بنفسه بأن يدون في هذا الشيك الراتب المعتاد للوظيفة، دون أي زيادة. ولعل موقف أستاذنا الكبير المرحوم المستشار الدكتور وحيد رأفت كان معبراً تماماً عن هذا المعنى، عندما قدم له المرحوم الدكتور عبدالعزيز حسين عرضاً للعمل مستشاراً لحكومة الكويت، فقد طلب منه الأخير أن يحدد راتبه، فأجابه الدكتور وحيد بسؤال عن أعلى راتب لمستشار في الكويت، فأجابه بأنه 700 د.ك، راتب مستشار صاحب السمو الأمير، وعرفه باسم المستشار، الذي كان الدكتور وحيد أقدم تخرجاً منه، وطلب الدكتور وحيد على الفور مبلغ 701 د.ك، فالمرتب بالنسبة له لم يكن يعني سوى كرامته وكرامة الوظيفة. حمايـة العدالةإلا أن للمسألة وجهاً آخر لا يجوز أن نغفل عنه، هو حماية العدالة، التي لا تتأتى إلا بتهيئة كل الظروف للقاضي غير الكويتي، لكي يعمل في جو تسوده المحبة والتآخي والتناغم بينه وبين زملائه، فالقضاء ليس كغيره من الأجهزة الحكومية التي تفرق فيها القوانين والأنظمة في الرواتب والبدلات وغيرها من مزايا نقدية وعينية بين الكويتي وغير الكويتي، إنه عنوان الحضارة في كل بلد، إنه الميزان الذي يعطي كل ذي حق حقه، يلوذ به المظلوم ويرد اعتداء الظالم، إنه الحصن الحصين للحريات، وقيل في تعظيم هذه الرسالة والإحساس بقدرها وخطرها «إذا عدل القاضي مع أهل الأرض جميعا وجار في حق رجل واحد فقد مال جوره بعدله»، لأبي مسلم الخولاني.ولقدسية رسالة القضاء وسموها فقد حملها الأنبياء والرسل، وقد أحس الرسول عليه الصلاة والسلام بخطرها، فقال وهو يتولى القضاء بين الناس «إنما أنا بشر مثلكم، وأنكم تختصمون إلي، ولعل أحدكم ألحن بحجته من الآخر فأقض له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه، فإنه جمرة من نار».استقلال القضاءوحماية العدالة لا تتأتى إلا باستقلال القاضي، ولا يكتمل لهذا الاستقلال مقوماته، إلا إذا أبعدنا القاضي عن أي تأثير خارجي عليه. وقد روي عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان». وقد قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر بأن استقلال السلطة القضائية يعني أن تعمل بعيداً عن أشكال التأثير الخارجي التي توهن عزائم رجالها (جلسة 5/6/1996 الطعن رقم 34 لسنة 16 القضائية). وأن الفصل في الخصومة القضائية حقاً وعدلاً، لا يستقيم إذا داخلته عوامل تؤثر في موضوعية القرار الصادر فيها، أياً كانت طبيعتها وبغض النظر عن مصدرها أو دوافعها أو أشكالها. ولا ريب في أن شعور القاضي بالغبن، وأن من يجلس معه في الدائرة الواحدة، يزيد عليه كثيراً في الراتب، بالرغم من أنه أصغر سناً وأحدث تخرجاً، لا يؤمن معه أن يسيطر عليه القلق والضجر بما يشغله عن متابعة أحداث الدعوى وبما قد يجعل قضاءه مجانبا للصواب. المساواةوفي تناول الدستور لمبدأ المساواة نصت المادة (29) على أن الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين. ومن بين المقومات الأساسية للمحاكمة المنصفة العادلة، المساواة أمام القضاء، بأن يساوي القاضي بين الخصمين في مجلس القضاء، وتتعادل مع المساواة أمام القضاء، المساواة بين القضاة أنفسهم، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فهما صنوان يتضامنان تكاملاً ويتكافآن قدراً في كفالة المقاييس المعاصرة التي توفر حماية العدالة، توقياً لأي تأثير محتمل قد يميل بالقاضي عن ميزان الحق والعدل.
مقالات
ما قل ودل: تحقيق المساواه بين القضاة حماية للعدالة
02-03-2009