الغزو الإيراني للمنطقة بين السياسي والمذهبي
ودّعنا رمضان حزيناً لاختلاف المسلمين حول هلاله -بدايته ونهايته- لكن ما أحزنه أكثر، أن يوظّف بعض المشايخ منابره في فتاوى وتصريحات تزيد فرقة المسلمين وتشرذمهم، إذ استغلوا روحانية الشهر الفضيل في إطلاق فتاوى أشبه بالقنابل الصوتية.أصبح المسلمون اليوم أمة لا تجيد إلا إنتاج القنابل: قنابل بشرية مدمرة للحياة والأحياء، وقنابل صوتية (فتاوى) تكرس الفرقة والكراهية، وتعمّق التشتّت والانقسام، كثرة هذه الفتاوى ودويها، مؤشر سلبي على تردي الوضع العام: السياسي والاجتماعي والديني، وعندما يوكل المجتمع أموره إلى الشيخ والفقيه يستفتيهما في كل صغيرة وكبيرة، ويلتمس منهما حلولاً لقضاياه فإنه بذلك يعرقل حركته نحو التقدم والتنمية، لأن الشيخ والفقيه لن يقدما إلا حلولاً ماضوية غير مناسبة لقضاياه. مر الشهر الفضيل وكان مثقلاً بفتاوى أثارت جدلاً واسعاً، بدءاً بفتوى الشيخ اللحيدان، بقتل مالكي الفضائيات التي تنشر المجون والشعوذة، ومروراً بفتوى الشيخ الجبرين بجلد الصحافين الذين تطاولوا على العلماء، وفتوى بقتل الفأر «ميكي ماوس» لأن الشريعة تعتبره «فويسقة» تضرم النار على أهل الدار، ويجب قتله في الحل والحرم، وفتوى صحة زواج الفتاة في التاسعة لأنها تحتمل النكاح، وفتوى هدم «الحمام» إذا كان بابه مواجهاً للكعبة، وفتوى إلزام المرأة بنقاب له عين واحدة لرؤية الطريق فقط.
وأبى الشهر أن يرحل، حتى فجر الشيخ القرضاوي زوبعة كبرى عن «التبشير الشيعي» ومن المناسب أن نخصص المقالة لها، إذ أثارت جدلاً كبيراً تخللته اتهامات تجريحية وتشكيكية ما كان ينبغي لها، لو كان «إحسان الظن» هو السمة الغالبة على العلماء، لقد انتقد الشيخ محاولات التشييع، وقال: إنها تثير الفتنة، وأشار إلى اختراقات في مصر والسودان والمغرب والجزائر ونيجيريا، باعتبارها دولاً كانت سنية خالصة وأصبح فيها شيعة، وحذّر من خطورة الغزو المذهبي، ودعا أن نقف متكاتفين ضده، وأيده بعض العلماء ورفضه آخرون، لكن الطرف الشيعي ساءته هذه الدعوة واستنكرها، واعتبرها دعوة إلى بث الأحقاد بين المسلمين، خصوصا أن الشيخ قال: إن أغلب الشيعة يقولون إن القرآن كلام الله، لكنهم يقولون هذا ليس القرآن كله. وشنت وكالة الأنباء الإيرانية هجوماً على الشيخ واتهمته بأنه تحدث نيابة عن «زعماء الماسونية العالمية وحاخامات اليهود» وهي التهمة الجاهزة التي نرمي بها كل من نكرهه، وقام المحامي الشيعي أمين طاهر البديوي برفع دعوى قضائيه ضد الشيخ بتهمة التطاول على الشيعة، والتحريض ضدهم، وإشعال الفتنة بين المسلمين. في تصوري، أن كل هذا الجدل لا معنى له، وكنا في غنى عنه، وأن الاتهامات مرفوضة وغير لائقة، كفانا اتهاماً وتخويناً وتشكيكاً، فنحن الأمة الوحيدة المولعة بمثل هذه الاتهامات، وهي دليل عجز وفشل وفكر وصائي، استعلائي، يحتكر الدين والوطنية، هي من موروثات عصور التخلف الباقية والمهيمنة على بعض النفوس المتعصبة والعقول المغيبة، كما أن التحذير من خطورة «التشيع المذهبي» مبالغ فيه وحالات تشيع محدودة– منطلقها حرية الفرد في اختيار مذهبه– لا تستدعي فزعاً، ولا تشكل خطورة، ولا أدل من نفي د. محمد سليم العوا، أمين اتحاد علماء الملسمين، وجود نشاط شيعي في البلاد السنية، قائلاً: إن الخوف غير مبرر، وأكد د. ضياء رشوان، المحلل السياسي بالأهرام، أن التاريخ لا يذكر أمماً تحولت من مذهب لآخر بين يوم وليلة، ومصر لم تتحول من المذهب الشيعي إلى السني إلا بعد انتقال الحكم إلى الأيوبيين، كما تساءل شيخ الأزهر د. سيد الطنطاوي: لماذا التخوف من المد الشيعي لمصر أو غيرها، فهل الشيعة بهذه الخطورة؟! ذلك غير صحيح، واختلافنا معهم في الفروع لا الأصول، وقالت د. آمنة نصير عميدة سابقة للدراسات الإسلامية «ليس ثمة خطر من الشيعة، وإثارة القضية لها منطلقات سياسية لنشر الفرقة بين المسلمين»، مؤكدة أن الشعب المصري هواه «شيعي» يحبون آل البيت لكن من دون تمذهب، وأصدر د. كمال الهلباوي بياناً لتهدئة السجال وقال: «لا ينبغي أن يكون هناك حرج بين المسلمين جميعاً فيما يعتنقون من مذاهب فقهية، فالاختلافات المذهبية قديمة، ولا جديد في ذلك وقد تعايش معها المسلمون على مر القرون بكل مرونة» كما أن التعميم في التحذير من «الغزو الشيعي» غير صحيح، فنحن أهل الخليج -شيعة وسنة- عاش أجداداناً وآباؤنا، جيلاً بعد جيل، وحتى اليوم، ولم نسمع بتبشير شيعي أو سني حوّل سنياً إلى شيعي أو العكس، فلا حاجة لإثارة القضية وتضخيمها، وكما يقول د. سعد بن طفلة في مقالة قيمة –تشيعوا تسننوا...– «لو كانت لقيم الحرية عندنا مكانة، لانزوى تصريح القرضاوي في أسفل صفحات الجرائد، ولو كنا نؤمن بحرية الاعتقاد، لما وجدت صرخة القرضاوي صدى في منتدياتنا وصحفنا، إنه التخلف وغياب قيم حرية الاعتقاد» لا خطورة فيما سموه «التشيع المذهبي» فلن يتحول السنة إلى شيعة ولا العكس، لكن الخطورة كل الخطورة في «التشيع السياسي» المتمثل في تغلغل المشروع السياسي الإيراني في عمق البلاد العربية عبر التمويل الهائل، والشعارات الخادعة: مقاومة العدو الإسرائيلي ومواجهة المخطط الأميركي. إيران، دولة تسعى بكل جهد ومال إلى «الهيمنة» ولديها مشروع سياسي طموح يهدف للتدخل في شؤون المنطقة، بإثارة النزاعات، وتعميق الانقسامات تحت شعارات المقاومة وموجهة المشروع الأميركي، وذلك عبر حلفائها الذين تغدق عليهم بسخاء، وكان الأولى بعلمائنا التحذير من هذا المشروع الخطر على مستقبل المنطقة، كان الأجدر بهم التنبيه إلى مخاطر الغزو «السياسي» الإيراني، لا الغزو «المذهبي» فالشيعة إخواننا في الخليج وهم مواطنون ولا تشكيك في انتمائهم وولائهم لأوطانهم، ولا يشكلون خطراً على أحد، وقد تعايشنا معهم جيلاً بعد جيل، والخطورة في إثارة هذه الفتنة، والخطورة في الصراع السياسي الذي يلبس غطاءً طائفياً، الخطورة الحقيقية تكمن في نجاح إيران، غزو الساحة اللبنانية عبر ذراعها «حزب الله» العقبة الكبرى أمام استقرار لبنان وسيادته، وفي اختراقها للساحة الفلسطينية، وإحداث انقسام هو الأخطر في تاريخ القضية عبر «حماس» التي انقلبت على الشرعية، وانفردت بحكم «غزة» بدعم إيراني، هل كانت «حماس» قادرة على التمرد على السلطة لولا ذلك الدعم؟ وكرد على الشيخ القرضاوي أرسل «هنية» خطاباً يبتهل فيه إلى الله، أن يحفظ خامنئي ونجاد، فيما يشبه رد الدين! إيران اليوم تمول وترعى معظم الحركات السنية الجهادية، رغم الاختلاف المذهبي، ولها «اليد العليا عليها»، ولذلك لا أتوقع نجاح «حوار القاهرة» الفلسطيني إلا بالتفاهم مع إيران.والخطورة أيضاً في احتضان إيران لـ«القاعدة» التي تخطط لزعزعة الاستقرار في الخليج، والخطورة الحقيقية في تهديداتها بضرب المصالح الخليجية، وإغلاق هرمز، واحتلال الجزر الإماراتية، وتنشيط الخلايا النائمة في المنطقة، مما جعل قائد شرطة دبي، يحذر إيران ويقول «نصيحتي لهم أن يبقوا هذه الخلايا نائمة، فليست من مصلحتهم أن يزعزعوا استقرار الدول التي تستضيفهم» وهو الذي طالب بالأمس بضم إيران إلى «الخليجي».علينا أن نحذر من خلط السياسي بالديني فنؤجج «الطائفية»، فخلافنا مع إيران في حقيقته «سياسي» وليس «مذهبياً». * كاتب قطري