أمضيت أياماً في كوخ على بحيرة منقطعا عن العالم وصخبه مجردا نفسي من عنف الأجهزة المرسلة والمستقبلة. أحمل بيدي رواية «بان» للنرويجي «كنوت هامسن» وفي ذهني ذاكرة لشيخ علقت بي من دون أن أشعر. كانت أحداث الرواية تتماهى مع ما يحدث أمامي، لم أكن أمتلك بندقية صيد فأفرق بين اوزة وذكرها، وليس لدي شبكة لأقتسم الأسماك مع فراخ الأوز الكندي. لم أكن صيادا كبطل «هامسن» وكلبه، جئت متأملا لا قاتلا. لكنني كنت مستمتعا بهذا التشابه الفذ بين أجواء الرواية وعالم هذه البحيرة. قبل المغيب أوقدت ناراً في المسافة التي تفصل بين أول الكوخ والماء لأبعد البعوض وهوام الحشرات عن دمي، واسترخيت تاركا الشمس في البعيد تترك برتقالها يلامس زرقة الماء ويرتد إلى أطراف الغيم الأبيض كقلب الأم. حين اشتدت النار رأيت حمرتها تنعكس على الماء وشممت رائحة الأرض والماء، الشجر النيء والمحترق، العشب وسراخس الماء، كانت الرائحة تشبه رائحة أبي وهو يعود متعبا قبل المغيب. أبي، الشيخ الذي علقت بي ذاكرته من دون أن أشعر.

Ad

أظنني غفوت قليلا وأنا أرقب غيمة سوداء مثقلة تقترب من الكرسي الوحيد بين الماء والنار حيث أجلس وتسقط الرواية من يدي لتغمر وجهي. أحسست أنني أرتفع وأفقد إحساسي بالجاذبية. وجدت نفسي أجلس قبالته أحمل ذاكرته وأرجوه أن يستردها. لم يكن يتحرك من جسده المسجى على الملاءات البيضاء سوى عينين لهما بريق على وشك الانطفاء. قلت له «لا أستطيع أن أحتمل عبء ذاكرتين، و لا أريدك أن تموت بلا ذاكرة. ما أقسى أن تموت بلا ذاكرة».

سألني بعد جَهد «من أنت؟» قلت له «أنا ابنك». لم يتذكرني. كيف تتذكرني وأنا أحمل ذاكرتك، خذها لتذكرني». ولم يمد ذهنه المرتبك نحوي، إنه لا يريدها. كيف أقنع رجلا بلا ذاكرة أن يتذكر. من أين أبدأ. تاريخه يقترب من القرن أعرفه الآن بالتفصيل أنا حامل الذاكرة منذ ولادته يتيما ووحيدا لأب لم يره ولم يعرف الابن عنه شيئا. لا يعرف أين دفن أو حتى ان كان قتل أو مات من الدهشة. أسموه «يتيّم» مصغرا بتشديد الياء. في الثانية عشرة من عمره كسر فك جمل ولم يمهله الجمل طويلا ليثأر منه ويكسر فكيه فتتساقط أسنانه. غيّروا اسمه الى «أهتم» وصغروا الاسم رأفة به إلى «هتيمي».

لم يجدني سرد سيرته الأولى نفعا فلم يسترد شيئا من ذاكرته. قلت له اسمع هذا الصوت الذي أحببته شابا وظللت تسمعه وكأنك تكتشفه أول مرة، الصوت الذي يقول أحفادك: إنه يشبه صوت جدي إذا ترنم وحيدا.

خلوج تجذ الصوت باتلي اعوالها

تكسر بعبرات يحطمن سلالها

تهيض مفجوع الضمير بحسها

لا طوحت صوته تزايد هجالها

أبي، هل تتذكر؟ لم يرد. بقي معلقا بين النسيان والنسيان. سردت عليه تفاصيل الذاكرة بما استطاع أن يمنحني من صبر عليها. كنت أعرف أنها عبء لا يحتمل وكنت أعرف أن أعيش بقية حياتي بعبء ذاكرتين أمر لا يُطاق.

حين زرته آخر مرة وأنا أجهز أمري للسفر. كان أخوتي ووالدتي حوله قلت له: أزعجتك كثيرا. هذا آخر طلب لي. قال لي اذهب... اذهب ولم يقل غيرها. قبلت رأسه ودموع والدتي ومضيت.

حين وصلت منفاي اتصلت كي أطمأن عليه. ردت والدتي ولم أستطع أن أحادثه. قالت خرج يتريض. تكررت اتصالاتي وتكرر ترديدها نفس العذر. لم يكن الأمر مريحا. هل مات العجوز؟ بهذه الخفة. هل قتلته بنزقي. اتصلت مرة وسمعت صوته يجلجل في البيت وكأنه ينادي في فلاة واسعة. قلت أكلم أبي. قالت لن يعرفك. وأكملت أمي بهدوء:

حين قبلته وخرجت وأخوتك. كاد أن يبكي ولم يستطع. نفض رأسه مرتين وعاد أبيض الذاكرة كطفل. وضعت السماعة. ولذت بصمت طويل.

أبي ألن تسترد ذاكرتك؟ اذن اغفر لي. سأقول لك سرّاً . لقد قتلتك دائما في قصصي ورواياتي لأنني أحبك.

حين ألقتني السحابة بين النار والماء أمام الكوخ. سألت نفسي لماذا لم أخبره الحقيقة. بماذا تفيده الحقيقة من دون أن تكون لديه ذاكرة.

* موجز لنص طويل كتب قبل وفاة والدي الأسبوع الماضي.