ذكرت في الحلقة السابقة أنني التقيت بعض الرجال «ذوي الثياب البيضاء» حسب تعبير «آن» المجرية، وقبل أن أنطلق من الفندق وعدت الصديق سليمان الفهد أنني سأعود قريباً بعد رحلة إلى مضارب الغجر، وقبل أن انطلق استوقفني الصديق، لاحقاً، عيسى العصفور والذي كان حينها يعمل مستشاراً اقتصادياً أو رئيس القسم الاقتصادي في ديوان ولي العهد الشيخ سعد العبدالله، يرحمه الله، فقال لي عيسى إن بيننا أصدقاء مشتركين في الوسط الثقافي، ولكننا نريد أن نعرف بعضاً بطريقة مباشرة بلا وسائط (!!)، لذلك وعدت عيسى أن نلتقي بعد رحلتي الميمونة أو (المينونة) على رأي صديقنا الفهد إلى مضارب الغجر، ركبنا التاكسي «آن» وأنا، والتي كانت (تزنّ) على رأسي لمعرفة الرجال الذين يرتدون ثيابهم البيضاء والذين يعتمرون قبعات بيضاء مربوطة بحبل أسود على رؤوسهم. ولكي أكبح جماحها قلت لها يا بنت المجر ويا صديقة الغجر إنني مثلهم، بل أنا منهم وسأريك كيف أرتدي الثياب البيضاء (الدشداشة) والقبعة البيضاء المربوطة، بالحبل الأسود (الغترة والعقال)، وقلت لها (حاسماً جازماً) إن في حقيبتي هذه واحدة منها وسأرتديها في مضارب الغجر أو ترتدينها أنت!! سكتت على مضض ثم التفت إليّ السائق ذو الشارب الأشقر الكث، وقال لي ما بال هذه الببغانة؟، فقلت له: اسكت لئلا تفهم عليك. انها ضيفة (للمعلم) فلان الذي يشغل منصب (كذا) وما أنا إلا مرشد سياحي لها، جاء بي من البادية لآخذها إلى الساحل ثم أعيدها لترى آثار تدمر.
وهكذا وبهذه الكذبة البيضاء تخلصت من أسئلة السائق اللجوج الـ«كثير الأسئلة» مثل أي سائق تاكسي عربي، ربما تكون له مهنة أخرى غير توصيل السياح (!!)، وبالطبع لم تفلح معه هذه الكذبة إنما راح يمطرني بمزيد من الأسئلة (الاستنتاجية) المبطنة والتي أتقنها أكثر منه ولربما أكثر من (معلمه) باعتباري صحافياً معتبراً هوايته (الثرثرة) والاستنتاج، ولكنني قلت إن «الهذر» معه لعبة مسلية حتى نصل إلى هدفنا، فمثلا كان يسألني ما هي جنسيتها وماذا تشتغل. و(كم صار لها هون؟!) وهل هي بخيلة أم كريمة، وهنا قلت له إنها أكرم من (حاتم طيئ) إنها سليلة (حاتم الغجر!!)، ولذلك علينا أنا وأنت أن نكون لطفاء معها حتى نحصل على «المقسوم» باعتبارك سائقاً «جنتلمان»، وباعتباري مرشداً سياحياً «معتبراً»، كما انها تحب الموسيقى العربية كثيراً؛ لذلك لا بأس أن تسمعها ما لديك من أشرطة «الدبكة!!». فتح مسجل السيارة وكان المطرب يجأر كالثور والله لأطحن برغلكم خشن ناعم حيا الله!! وهنا اعتدلت «آن» وطلبت مني ترجمة هذا المقطع السخيف! ولكي لا أكشف لها «هيافة» الأغنية العربية قلت لها إن المغني كردي وأنا لا أعرف اللغة الكردية؛ لأنني كنت أتوقع أن تقول لي «ولماذا سيطحن هذا العاشق البرغل؟!» وساعتها سأخجل حتى الغيبوبة من ضحالة تراثنا الشعبي!! ولكي أصرف نظرها كلياً عن الأغنية قلت لها: تأملي جبال سورية العظيمة المكسوة بالاخضرار، إنها أجمل من بلادكم كما أنها مملوءة بالينابيع والجداول والبلابل والفاكهة والأزهار. وهنا التفتت لي وقالت: وهل بلادك «النفطية» كذلك؟ فقلت لها: بالطبع ولكن أشجارها أقصر وزهورها أكثر، وفيها تتجول الظباء والإبل ولا أحد يؤذيها تماماً مثل بلادكم العامرة؛ فـ«أهل الملابس البيضاء» لطفاء جداً ويحافظون على البيئة والحياة الفطرية، ولا يقتلون حتى «القُبّرة»... تصوري؟! بل وحتى «الأفعى»، فأنا مثلاً قلت لها مسترسلاً أملك قطيعاً من الإبل وقطيعين من الغزلان وأنواعاً عديدة من الأفاعي الأليفة!! وهنا قالت لي: أرجوك «يا سوم» هكذا تدلعني «آن» تبعث لي حينما أعود إلى المجر «عينات» من حيوانات بلادكم الجميلة! وصلنا إلى صلنفة، ونقدت السائق أجرته وإكرامية مضاعفة تنم عن كرم الحاتمية التي أحطتها معي؛ فذهب شاكراً «ممنوناً».
توابل - ثقافات
السيرة الذاتية لطائر الصحراء - 32
04-06-2008