مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في إقامة مؤتمر عالمي للحوار الذي يبدأ أعماله في مدريد قرار مهم وشجاع، بل توقيته ومكانه في قلب أوروبا له دلالات لا تقل أهمية عن أصل الفكرة، ومنها تعزيز ثقة المسلمين بأنفسهم وأمام هذا الإعلام المكثف والمضلل بالوصول إلى عقر دارهم، والتحدث معهم بلغة الحوار المتمكن والصريح.خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز صاحب مبادرات رائدة وحكيمة يخترق من خلالها الحالة الملتهبة والمتنامية من التوتر السائد في العالم ككل وفي الأقاليم الإسلامية بوجه خاص.
فبعد مبادرة الحوار الإسلامي السني-الشيعي في المملكة العربية السعودية، والتي كانت سابقة يعول عليها كثيراً في تحقيق أجواء أفضل من الألفة وتعزيز الجبهة الإسلامية الداخلية، يطلق الملك عبدالله مبادرته الجديدة في إقامة مؤتمر عالمي للحوار في العاصمة الإسبانية مدريد كتحول عالمي ملح في عصر صدام الحضارات والأديان.
فلطالما كانت الدوافع الدينية وقوداً لكثير من الحروب والصراعات البشرية على امتداد التاريخ الإنساني، بل حتى المواجهات السياسية والعسكرية ينفخ فيها لتزيد استعاراً وليدوم أمدها وتتسع رقعتها جغرافياً من خلال التعصب الديني، إما لإسباغ الجوانب الشرعية والعقيدية عليها، وإما لإضفاء الغطاء المقدس تبراً لها.
ومنذ سقوط الإمبراطورية الشيوعية في بداية التسعينيات وانتهاء الحرب الباردة بين قطبي العالم آنذاك؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، والتي لم تخلُ خلالها حروب الوكالات الإقليمية بين حلفائهما، فقد نشط البعد الديني في تأجيج أكثر من ساحة ومنطقة جغرافية، وكان دور الدين الإسلامي محورياً في العديد من تلك الصدامات، إذ لم تخلُ أي ساحة إسلامية، بل ذات أي وجود إسلامي من الحروب والقتال والدمار بدءاً من أقصى الشرق وانتهاءً بأميركا الجنوبية مروراً بآسيا الوسطى وأوروبا، أما منطقة الشرق الأوسط فقد تحولت إلى ميدان رئيسي للنزال العسكري والدموي، حيث استغل الدين شعاراً بالحق والباطل وبتعمد أو جهل ومن قبل المسلمين أنفسهم ومن خصومهم وأعدائهم على حد سواء، للتصعيد والتبرير لإشعال تلك النيران.
ونجح الإعلام الغربي من خلال ذلك في تصوير المشهد العالمي بأنه مواجهة العالم الحر ضد الإسلام والمسلمين، ومثل هذه الحالة المقززة التي استثمر فيها أشكال الحقد والكراهية كلها على المسلمين في تعميم ظالم ومنظم دفعت بالقوى والحكومات الغربية إلى حشد الرأي العام فيها من خلال التعبئة الدينية أيضاً، وكان ذلك واضحاً في تصريحات معلنة ومتواترة من رؤساء دول كبرى أمثال بوش وبوتين وشيراك وخليفته ساركوزي وتوني بلير وميركل وصولاً إلى بابا الفاتيكان.
وفي فن من الدبلوماسية الماكرة سرعان ما كان هؤلاء الزعماء يتراجعون أو يوضحون تصريحاتهم السلبية بأنها لا تشمل المسلمين جميعهم بعدما يشفوا غليل مواطنيهم ومؤسساتهم الدينية!
وصحيح أن بعض المسلمين قد أساء بالفعل إلى الدين الإسلامي وتلبد بعباءته وشوه الكثير من المعاني السامية لهذه الرسالة المقدسة من خلال القتل والإرهاب وترويع الآمنين، إلا أن مثل هذه السلوكيات المنحرفة لا تمثل مئات الملايين من أتباع هذا الدين الخاتم، وهذا ما يجب أن يفهمه العالم.
ومبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في إقامة مؤتمر عالمي للحوار الذي يبدأ أعماله في مدريد قرار مهم وشجاع، بل توقيته ومكانه في قلب أوروبا له دلالات لا تقل أهمية عن أصل الفكرة ومنها تعزيز ثقة المسلمين بأنفسهم وأمام هذا الإعلام المكثف والمضلل بالوصول إلى عقر دارهم والتحدث معهم بلغة الحوار المتمكن والصريح.
ويبقى هذا قدرنا في دفع ثمن ما يسببه المتطرفون والمتعصبون، فتصريح استفزازي واحد أو جريمة إرهابية قد لا تكلف شيئاً من الناحية المالية، ولكن ترميم مثل هذه الجرائم وجراحاتها يتطلب أموالاً وإعلاماً وتحركات دبلوماسية متواصلة ومكلفة على حساب الكثير من متطلبات البناء والتنمية، ولكنها تستحق ذلك!