Ad

كثيرة هي الأسئلة التي تجوب الزمان والمكان: ماذا عن مستقبلنا ومستقبل أطفالنا؟ فقد أنهكنا الماضي ويكاد يهلكنا... وأرهقتنا خلافاتنا الطائفية الأزلية... أما آن الأوان لنعترف أنه خلاف تاريخي ينبغي تجاوزه؟ وهل فكّرنا يوما كيف نبني مستقبلا يقوم على نقد الماضي ومكاشفته؟

في أوطاننا الغارقة في وهم المدينة الفاضلة، يكثر من يسعى ويدعو بسذاجة وطفولية إلى تحقيق مجتمع اللامكان واللازمان، المجتمع المثالي الكامل الخالي من الشرور والعيوب، متجاهلين أن المشكلة الوحيدة لهذا الحلم هي استحالة تطبيقه على أرض الواقع، لأن البشر بشر في كل الأزمنة والأمكنة، وأن أطناناً من المواعظ والعبر لن تغير من الطبيعة البشرية التي وضع فيها خالقها الشر والخير، ذلك لأننا لن نميز الخير إن لم يكن هناك شر، وهذا هو ديدن الحياة. ولا تزال تلك النزعة العاطفية والأسطورية تسيطر على العقل العربي العاجز عن فهم عالمه والعالم الآخر. فيسود الفهم العاطفي للتاريخ «الذهبي» الذي «لا يشوبه شائبة» متناسين أنه كان تاريخا بشريا لا ملائكيا، فلم يخل هذا التاريخ من التنازع والتصارع والفتن والحروب.

في الواقع، إن إحدى مشاكل العقل العربي تكمن في فشله الذريع في استيعاب الفلسفة بشكل عام وبالأخص فلسفة ابن خلدون، المؤسس الأول لعلم الاجتماع، الذي قدم في أطروحاته شرحا عقلانيا وواقعيا لتطور المجتمعات وانهيارها، فقد عجزت الذهنية العربية عن فهم التاريخ بموضوعية، وبالتالي فشلت في التعامل مع الواقع المعاش، وأنتجت رومانسيتها عقولا غارقة في المثالية والوهمية حتى الثمالة.

استطاع ابن خلدون، حسب عالم الاجتماع د.علي الوردي، أن يتحرر من المنطق القديم والسبب أنه أنزل الفلسفة من علياء السماء إلى الأرض، ووضع أسس علم الاجتماع الحديث بطريقة واقعية وغير متعالية. فقد أوصى ابن خلدون بمراعاة قوانين التاريخ وحركات تغيير المجتمعات التي تبدأ من البداوة وتنتهي إلى الحضارة، وحذّر من الانهيار الحتمي للدول التي يستفحل فيها داء الترف والاستهلاك والاستبداد الذي يؤدي إلى إنهاك المجتمع وإهلاكه. وفي شرحه للاستبداد يقول ابن خلدون «إن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتمثلون بهم من الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك»، هذا ما قاله ابن خلدون قبل مئات السنين.

وفي الحقيقة، إن من يلاحظ الكثير من المتظاهرين بالورع والتقوى ومخافة الله، يكتشف أنهم لا يختلفون عن باقي البشر في التنازع والتحاسد والتنافس. وكلما ازداد الناس جهلاً، ازداد يقينهم بأنهم الأفضل والأعلم والأجدر في الحكم، فكل «حزب بما لديهم فرحون» وهذه هي العصبية التي حذّر منها ابن خلدون. فيؤكد أن بداية نهاية الدول والحضارات تبدأ بظهور العصبيات الجديدة التي تحفر قبرها بيدها بعد أن تصل إلى قاع الانحطاط، وفي انهيارها تكتمل دورة الحركة التاريخية للمجتمعات، حيث يحلل ابن خلدون هذا الوضع كالآتي: «أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة والسبب في ذلك... أن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها فيكثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت»، وشواهد التاريخ على حقيقة ما طرحه ابن خلدون أكثر من أن تحصى.

كثيرة هي الأسئلة التي تجوب الزمان والمكان: ماذا عن مستقبلنا ومستقبل أطفالنا؟ فقد أنهكنا الماضي ويكاد يهلكنا... وأرهقتنا خلافاتنا الطائفية الأزلية... أما آن الأوان لنعترف أنه خلاف تاريخي ينبغي تجاوزه؟ وهل فكّرنا يوما كيف نبني مستقبلا مبنياً على نقد الماضي ومكاشفته؟ وهل بمقدورنا قراءة كيف صنعت الأمم الحديثة حضاراتها؟ وهل نستطيع أن نتخلص من أغلال الماضي وطوباويته؟ وهل سننجح في بناء جيل واع باستحقاقات المرحلة الراهنة، جيلٍ براغماتي بعيد كل البعد عن الشعارات العاطفية الزائفة؟ وهل سيتبنى هذا الجيل قيم الدولة الحديثة من عصرنة وحداثة وتسامح وحقوق إنسان، وكل نتاج النضال البشري المضني ضد الطغيان والاستبداد والقمع؟ الأجوبة يمتلكها شبابنا... شباب الإرادة والتغيير والأمل، فهم وقود التجديد والتقدم والبقاء. فلنعد حساباتنا ولو لمرة واحدة... فصناعة الحياة خير وأبقى من صناعة الموت والهلاك.