لا شك أن أي إدارة لأزمات الشرق الأوسط ومشكلاته من قبل رجل جالس في البيت الأبيض لن تكون أسوأ من تلك التي حصلنا عليها من بوش الابن، لكن التعويل على أوباما، رغم كل هذا الهوس، يلزمه الكثير من العمل؛ إذ إن الله لا يساعد سوى هؤلاء الذين يساعدون أنفسهم.
لا بأس إن شاركت الجماهير العربية، ونخبها أيضاً، في حفلات الهوس الجمعي بالرئيس الأميركي الـ44 باراك حسين أوباما، ولا ضير في أن تكون منطقتنا جزءاً من عالم وقف مشدوهاً معجباً بما أنجزه هذا الشاب الأسود، وبما حققته بلاده بقبولها طموحه واستيعابها لطاقته، لكن الإشكال ينشأ حين يتحول هذا الهوس تعويلاً؛ فالفارق كبير بين المناقب الشخصية واشتراطات الحكم واعتبارات السياسة.لا شك أن أوباما رجل محظوظ، تجمعت لديه عوامل كثيرة للبروز وحصد الإعجاب والنجاح؛ لعل أهم تلك العوامل أنه أتى بعد أحد أسوأ الرؤساء الأميركيين قاطبة، وأنه حول مشكلته العرقية وضعف مستواه الاجتماعي طاقة مفعمة بالأمل والطموح، في مجتمع تأسس على فكرة اغتنام الفرص واتساعها في معظم الأحيان وتكافؤها في بعضها.وقد ساعد الرجل نفسه كذلك، حين عرف كيف يخاطب الإعلام ويلعب على مشاعر الجمهور، وحين أتقن دوره كمشروع زعيم عالمي، وليس مجرد مرشح لرئاسة دولة، وإن كانت أقوى الدول وفق معايير النظام العالمي الجديد.ومنذ قتل الرئيس الأميركي الـ35 جون كيندي، في نوفمبر 1963، لم يحظ زعيم سياسي آخر في هذا البلد بما حصده أوباما من مجد وتفاؤل وحسن استقبال. ووصل الأمر إلى نشوء مصطلحات جديدة تعبر عن حال الهوس الصارخة بهذا الزعيم الجديد؛ ومنها مصطلح «أوبامانيا» Obamania، أي «الأوبامية»، وكذلك «الأوباميون» Obama-cons، فضلاً عن وقوع الملايين من الجماهير داخل أميركا وخارجها في غرامه، على حد وصف منافسه الجمهوري جون ماكين.لطالما قيل إن الصحافيين الأميركيين عادة ما يميلون إلى تأييد المرشح الرئاسي الديمقراطي بحكم أن غالبيتهم من الليبراليين، لكن الهوس الذي حل في صفوف الإعلاميين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة كان الأكثر وضوحاً على الإطلاق. كان اسم أوباما هو الأكثر تردداً في تاريخ الإنترنت؛ إذ تم رصد تكراره على المواقع أكثر من 500 مليون مرة، وكان الرجل أكثر من حظي بالألقاب؛ ومنها: «المرض المعدي»، و«هدية العالم لأميركا»، و«ماكينة الأحلام»، و«النجم الساطع»، و«النجم الصاعد بسرعة الصاروخ»، و«النجم فوق العادة».كولين باول الوزير السابق في الإدارة الجمهورية المنصرفة انضم إلى مؤيدي أوباما، وأوبرا وينفري التي بنت أمجادها كإعلامية تليفزيونية على الحياد، قالت «لم أعد محايدة حيال هذا الرجل»، وبكت لأن «جدها لم يحضر تنصيب هذا الرجل الأسود رئيساً للولايات المتحدة».حظي أوباما بأكبر تغطية إعلامية في تاريخ العالم وفق معظم مراكز البحوث الإعلامية ومعاهد الدقة العامة؛ وقد فاق في كثافة حضوره الإعلامي ما حققته أحداث بحجم هجمات 11 سبتمبر، ووفاة البابا السابق يوحنا بولس الثاني، وأولمبياد بكين، وغيرها. صحافية شهيرة مثل ليندا دوغــلاس استقالت من عملها في «إيه بي سي»، لتنضم إلى حملة أوباما، وأهم المحطات التلفزيونية الأميركية (باستثناء «فوكس» المملوكة للمحافظ مردوخ بالطبع) أظهرت انحيازاً غير مسبوق في تغطياتها لأنشطة الرجل، بحيث تم إحصاء قصة سلبية واحدة عن أوباما في مقابل كل سبع قصص إيجابية.شعارات أوباما عن «الحلم» و«التغيير» والقدرة على إنجاز التغيير Yes, we Can، باتت أيقونات وعناوين مراحل في حياة الشعب الأميركي وسواه من الشعوب. يوم التنصيب شهد خروج أكبر عدد من صحف العالم المهمة عن حيادها حيال الحدث الكوني المهم. حدث هذا انطلاقاً من الولايات المتحدة، التي كتبت صحفها «الأمل وليس الخوف»، و«نعم هو»، و«التاريخ»، و«أميركا تعيد بناء نفسها»، و«أوباما». ولكن الهوس امتد أيضاً إلى أهم الصحف الأوروبية: «اليوم تعيد أميركا بناء نفسها» كما قالت «الغارديان»، و«أنت الأب» كما قالت «صن» على لسان ابنة الرئيس العتيد، و«وعود أوباما» كما قالت «تايمز»، و«يد التاريخ» كما نشرت «ديلي ميل»، و«أميركا تولد من جديد» كما جاء في «ميرور». وفي أقصى الشرق أيضاً قالت «ديلي يوموري» اليابانية إن «أوباما يصنع التاريخ»، وهكذا فعلت «تايمز أوف إنديا» في الهند.أجرى موقع مواعدة غرامية أوروبي مشهور استطلاعاً كبيراً للرأي بين نساء أوروبيات عن أكثر الرجال جاذبية جنسية من وجهة نظرهن، فيما كان المتنافسون نجوماً وسياسيين مرموقين من عينة ريتشارد جير وبراد بيت وغيرهما، والغريب أن الهوس بأوباما امتد إلى هذه المنطقة أيضاً، فتصدر الرجال في هذا الشأن الحميم كذلك.كان خطاب تنصيب أوباما إضافة جديدة إلى قدراته البلاغية والسياسية ودليلاً آخر على براعته وحنكته؛ إذ خفض الرجل أسقف الأمل، سواء فيما يتعلق بالرفاه والخدمات في الداخل، أو فيما يتعلق بالنفوذ والتأثير والتغيير في الخارج، ومع ذلك فقد حصد الإعجاب والتفهم والصيحات المؤيدة بل والدموع، من أكبر حشد شهده التاريخ أمام كاميرات التلفزيون وأيضاً أمام شاشاته ربما.ثمة حقيقة واضحة لنا في هذا الجزء من العالم؛ وهي أن أوباما يحظى بالإعجاب والهوس ويعزز التفاؤل، وثمة ما يجب أن يكون واضحاً أيضاً؛ وهو أنه لا توجد أي مؤشرات إلى أن أوضاعنا ستتحسن بمجرد انخراطه في التعاطي مع مشكلات منطقتنا.لا شك أن أي إدارة لأزمات الشرق الأوسط ومشكلاته من قبل رجل جالس في البيت الأبيض لن تكون أسوأ من تلك التي حصلنا عليها من بوش الابن، لكن التعويل على أوباما، رغم كل هذا الهوس، يلزمه الكثير من العمل؛ إذ إن الله لا يساعد سوى هؤلاء الذين يساعدون أنفسهم.ويبدو أن شعوب منطقتنا، وبعض نخبها، راحت مع موجة الهوس الساحرة هذه تبني آمالاً عريضة وتشيد أحلاماً عن حلول ناجعة لمشكلات أعيت المنطقة والعالم لعقود.ويمكن القول إن صفاً عربياً مشقوقاً كما هو حاصل الآن، وأوضاعاً فلسطينية مهشمة، وعراقاً مأزوماً محتلاً ومرهوناً لقوى إقليمية مغرضة، وأنظمة تراوح بين التقادم والاستبداد، ومنطقة تفتقد الرؤية وتعوزها القدرة وتعجزها الوسائل لن تنال من أوباما سوى الهوس، الذي لن يكون بمقدورنا التعويل عليه * كاتب مصري
مقالات
الهوس بأوباما... والتعويل عليه
25-01-2009